فرصة الحوار الوطني السوري.. و”دبلوماسية الزلازل” 2/2

بادر الرئيس بشار الأسد بعد بضعة أيام على الزلزال الكارثي إلى دعوة السوريين إلى حوار وطني، وهي دعوة لم تخرج عن السياق العام لبدء عودة العرب إلى دمشق، وما يمكن أن يتركه من آثار إيجابية في فك العزلة والحصار عن سوريا، ما ولّد مجموعة من التساؤلات عن مدى إمكانية هذا الحوار، والأطراف التي يمكن تشارك فيه، والنتائج التي يمكن الوصول إليها في حال حصوله، وفرص تشكيله باباً لبدء خروج السوريين من محنتهم.

ما زال هناك عدم وضوح بشأن مستقبل هذه الدعوة، فعلى الرغم من إطلاقها ضمن كلمته، فإنها لم تحظَ بالاهتمام حتى الآن، على الرغم من مرور أكثر من أسبوعين عليها. قد يكون ذلك نتيجةً للأحداث المتلاحقة ولتوسع الانفتاح العربي على سوريا، المترافق مع غيوم متلبدة بتهديدات حرب إسرائيلية على إيران. على الرغم من ذلك، فإن طبيعة التفاهمات الإقليمية التي يتم العمل عليها ابتداءً من البوابة السورية، يمكنها أن توفر جواً عاماً لبدء حوار وطني سوري قد يشكل فرصة لاستكشاف مدى قدرة السوريين على الوصول إلى قاسم مشترك بينهم يدفعهم إلى المشاركة في استعادة التعافي السوري، ولكن ذلك دونه مجموعة من العقبات التي تحتاج إلى تعاطٍ مختلف من قبل مختلف الأطراف المنقسمة على نفسها. العقبة الأولى هي الانقسام المناطقي الواضح. هذه العقبة لها 5 مسارات مختلفة، ويؤدي عامل الزمن المتطاول دوراً أساسياً في ترسيخ وقائع على الأرض في مناطق سيطرة الدولة، وفي حوران وجبل العرب والجزيرة الفراتية وشمال غربي سوريا. ومما يزيد مشكلة هذه العقبة هو تباين الامتدادات الإقليمية والدولية لهذه المناطق بتمثيل مختزل لواقع الصراع الإقليمي والدولي. العقبة الثانية هي تباين الوضع الاقتصادي بين هذه المناطق الخمس، برغم سيطرة نمط اقتصاد الظلّ على أغلبها كإفراز لواقع الحرب الممتدة، ما ولّد دوائر مغلقة من المستثمرين بها، وأجَّج حجم الفوارق الطبقية بتمركز رؤوس الأموال لدى شرائح ضيقة، وتحول الغالبية العظمى من السوريين إلى ثلاث شرائح مختلفة من الفقر. وتؤدي مكتسبات اقتصاد الحرب دوراً سلبياً معرقلاً لإطلاق الحوار الوطني، حرصاً على بقاء الثروات والخوف على المكتسبات التي حصلوا عليها. إضافة إلى ذلك، هناك التباين في مستوى الفقر بين المناطق، وخصوصاً بين مناطق سيطرة دمشق والسوريين الموجودين في الجزيرة السورية ومناطق شمال وغرب سوريا، فحجم الخدمات التي تتمتع بها المنطقتان الخارجتان عن السيطرة الرسمية القانونية تفوقان بشكل كبير مناطق سيطرة الدولة السورية، ما يشكل حالة قلق خشية الانتقال إلى سيطرة الدولة التي ستترافق مع فقدان الخدمات من كهرباء ومشتقات النفط، وتراجع أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية، بما في ذلك السيارات. العقبة الثالثة هي التباين الثقافي بين تجارب المناطق الخمس، وخصوصاً مناطق شمال غربي سوريا ومناطق الجزيرة السورية والمناطق المتبقية من الدولة السورية، حيث تسيطر تجارب سياسية مختلفة ومتباينة بين المناطق الثلاث، وتستمر التجربة في دمشق بالسياق العام نفسه منذ عام 1963، فيما هناك عمل على بناء تجربة مختلفة ذات طابع علماني بحت ورؤية مختلفة لطبيعة الدولة في الجزيرة السورية، عصبها الأساس ما يعتقده الكرد بقضيتهم القومية. بدورها، تختلف مناطق شمال غربي سوريا التي يسيطر عليها الإسلاميون المتباينون في ما بينهم، ابتداءً من الإخوان المسلمين، مروراً بتنظيم “القاعدة”، وانتهاءً بتيارات إسلامية لا يمكن تفصيلها لكثرة عددها.
العقبة الرابعة تتعلّق باللاجئين السوريين وأماكن وجودهم المختلفة في البيئات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمدنية الحضارية، ما ترك آثاراً عميقة ومتباينة بينهم من جهة، وبينهم وبين القاطنين تحت سيطرة الدولة السوية من جهة أُخرى، ما يُصعب إمكانية التوافق على مجمل السياسات المستمرة حتى الآن، عدا عن الأطفال السوريين الذين ولدوا أو انتقلوا إلى دول اللجوء في المراحل المبكرة من الحرب وسهولة اندماجهم في البيئات الجديدة، ويكفي أن نذكّر بأن عدد الأطفال الذين ولدوا في تركيا تجاوز 800 ألف منذ عام 2011. يأتي ذلك إضافةً إلى عدد كبير من النجاحات التي حقّقها الكثير من اللاجئين السوريين على المستوى الاقتصادي والعلمي وتوفر البيئات الآمنة لعملهم، ما عمق انغماسهم في المجتمعات التي هاجروا إليها، بسبب فقدانهم مثل هذه البيئة في بلدهم الأم بفعل نتائج الحرب. مثل هؤلاء يشكّلون شريحة مهمة ومميزة يحتاجها بلدهم، ولا يمكنهم العودة إلا بتوفر بيئة مناسبة لإطلاق فعاليتهم الاقتصادية والعلمية. العقبة الخامسة ذات طابع اجتماعي تتعلق أساساً بقاطني مخيمات اللجوء في لبنان والأردن وتركيا، وهي تتعرض لإعادة تشكيل عقلي واجتماعي لا ينسجم مع مقومات إعادة بناء الدولة السورية، والأخطر منهم معتقلو عناصر “داعش” وأسرهم، وخصوصاً في مخيم الهول في الحسكة، حيث يُربون كقنابل وألغام موقوتة قابلة للانفجار بسهولة حالما يخرجون إلى خارج إطار مجتمعاتهم المغلقة. قد تكون هذه العقبات الخمس من أهم العقبات التي لا تحصى، فضلاً عن العقبات الدولية والإقليمية، ويمكن للتلاقي الإقليمي في سوريا، بعد بدء توارد العرب إليها، أن يقوم بتأمين إطار واسع ودافع للحوار الوطني، وخصوصاً في الجنوب السوري، بما تمتلكه كلٌ من السعودية والإمارات من تأثيرات في العشائر العربية في الجنوب، إضافة إلى العشائر في الجزيرة السورية.
الأمر نفسه في الشمال الغربي، حيث تمتلك تركيا نفوذاً واسعاً على كل التنظيمات الإسلامية، وهي، بالتنسيق مع إيران وروسيا، يمكنها الدفع نحو حوار السوريين مع بعضهم بعضاً، مع إدراك صعوبة ذلك، بحكم انتمائهم الفكري الإسلامي ذي الطابع التكفيري، فيما قد يكون الأمر أسهل مع كرد الجزيرة، شرط أن ترفع الولايات المتحدة يدها عن احتلالها وتتوقف عن عرقلة الحوار الوطني السوري. يقع نجاح الحوار الوطني السوري بعبئه الأكبر على دمشق، فعلى الرغم من الانقسام السوري الكبير، فإنها تبقى الحلم للجميع، بعد عدم قدرة هذه الحرب الطويلة على إسقاطها، وهي تستطيع فعل الكثير لإنجاح الحوار الوطني الذي لا يمكن أن يحصل من دون مؤشرات أولية إيجابية، أولها الانتقال إلى الاقتصاد الطبيعي، ومسؤولية الدولة عنه، وإلغاء اقتصاد الحرب، إضافة إلى تغيير السياسات الإعلامية، مع مؤشرات واضحة على حرية الحراك الوطني المطلوب لبلورة شخصيات وطنية شابة.
الحلّ السياسي في سوريا أصبح ضرورة لا بدَّ منها لتجاوز دورة العنف المستمرة حتى الآن، والأمر يحتاج إلى التفكير من خارج الصندوق، مع النظر من زوايا مختلفة وتدويرها لإيجاد مخارج يمكن أن تتوفر مؤشراتها قريباً. هذا الحل لا يمكن أن يأتي إلا من خلال حوار وطني واسع ومعمق يشمل جميع الذين يؤمنون بسوريا موحدة مستقلة وسيدة نفسها ضمن نظام إقليمي يؤمن لها البيئة المناسبة للتعافي والانطلاق ومنع دورات العنف. إمكانية الحوار الوطني ممكنة، وخصوصاً بعد ارتفاع مستوى المؤشرات الإيجابية إثر انفتاح عربي واسع على سوريا يمكنه أن يساعد في بناء مستقبل جديد لها، إضافةً إلى التلاقي التركي السوري المقبل تحت مظلة الضمانات الروسية الإيرانية. ويبقى السؤال المهم: من هم أقطاب الحوار الوطني؟ ووفق أي معايير سيتم اختيارهم؟ ومن سيضع هذه المعايير؟
 

مقال نشرهُ موقع 180 درجة، تُعيد نشره صباح الخير- البناء