اعتاد اللبنانيون عند كل استحقاق أو حدث سياسي مفصلي على شحذ سكين المناكفات والتجاذبات، ودخول باحة العراك بشعارات وتعليقات واصطفاف تنابذي، على أساس ان المتنازعين كل من ناحيته يمتلك الحقيقة المطلقة ويبخس الآخرين حقهم ويسخف أطروحاتهم وخياراتهم. وهكذا على الدوام تدخل البلاد في طاحونة من ضدية المواقف الحادة الساخنة التي تتعطل معها عجلة المؤسسات ويسقط منطق الحكم السوي ودولة القانون والمصلحة العليا ويغدو الشغور بابا مشرعًا على شتى الاحتمالات السلبية في كثير من الأحيان .
اليوم أمامنا قضية التمديد للواء عباس ابراهيم في موقع مدير عام الأمن العام الذي شكل استثناء على القاعدة الآنفة الذكر، بحيث لم يشهد لبنان إجماعًا وطنيًا عارمًا في الظاهر والمضمر كالذي واكب ملف التمديد للواء عباس ابراهيم، والذي إن دل على شيء فعلى المكانة المرموقة التي يشغلها اللواء عباس ابراهيم في الوجدان اللبناني العام، والبصمات الناصعة التي تركها عبر أدائه الأمني العالي المستوى في أكثر من ملف دقيق، ما استرعى اهتمام مؤسسات أمنية عربية وعالمية، لدرجة بات معها الملاذ المرجعي الخلاصي في قضايا حساسة أظهر من خلالها براعة تفاوضية خلاقة، تكللت في ملفات مستعصية بخواتيم سعيدة ونتائج باهرة.
والحال، قلما تلاقى اللبنانيون وتقاطعت أحزابهم وفئاتهم وشرائحهم السياسية والحزبية والدينية بصدقية تامة لا زيف فيها حول شخصية مدنية كانت أم عسكرية، كما أجمعت على شخص اللواء عباس ابراهيم على عكس اجماعات واخفاقات لطالما غلّفها الرياء على الطريقة اللبنانية المعهودة.
والحقيقة التي لا تقبل الجدل أنّ لبنان بكليته يرغب بالتمديد للواء ابراهيم، لشعور خاص بالإطمئنان سواء على مستوى الأداء الوظيفي وآليات عمل جهاز الأمن العام الموثوق أمنًا وأمانة، أو على المستوى الأخلاقي وخيوط الود والاحترام التي نسجها اللواء ابراهيم مع جميع الأطراف والأطياف، وحملت معها الثناء الطيب والتقدير الرفيع، في حين سمعنا دواوين من قصائد الهجاء بحق مسؤولين لبنانيين في شتى القطاعات والمواقع والمستويات مجرد هجرهم أو تهجيرهم القسري لمواقعهم الرسمية .
عمليًا، وعقب تطيير الجلسة التشريعية كخيار سلس للتمديد تحت عنوان الظرف القاهر الاستثنائي وقلة حيلة الرئيس ميقاتي في النفاذ قانونيًا من الجدار المقفل خشية الطعن في مجلس شورى الدولة، أبعد الرئيس ميقاتي هذه الكأس عنه بحجة انسحاب التمديد على مواقع مماثلة، وواكبه عمليًا وزير الداخلية بالخلفية ذاتها. كذلك وفي إطار اجتراح المخارج لم يحظ بالرضى القانوني اقتراح أهل الاختصاص حول خيار استدعاء اللواء ابراهيم من الاحتياط مع تطبيق تعليق المهل لجهة السنوات الخمس الممددة للاحتياط باضافة سنتين وخمسة أشهر تؤلف مهلة التعليق، ناهيك عن القيد القانوني الذي يحول دون التعيين من خارج الملاك مديرًا عامًا للأمن العام، وإن ننسى لا ننسى معضلة التوزيع الطائفي وانزياح الموقع راهنًا الى مكان آخر.
لا شك أنّ قطبًا مخفية تغلف الملف، في ظاهرها الهمس كما الدس في الآونة الأخيرة، في محاولة ايحائية عبثية يائسة غير موفقة للتلطي خلف أوهام فيتوات وعراقيل وكوابح لاندفاعة اللواء عباس ابراهيم المغلفة بالوقار المهني والكياسة في التعاطي، في محاولة لرمي العلة في مكتوم ما في مكان ما، وجاء إجماع الثنائي الوطني، أي حركة أمل وحزب الله ليضع حدًّا جديًّا للعب في الوقت المستقطع، وردًا صارمًا على التهويم والتضليل اللذين مورسا وما زالا، وسجل في هذا المجال عتب كبير من مرجع حزبي رفيع على جهة سياسية كانت وعدت وأخلّت بالوعد في سياق النشاط التشريعي ما حال دون إنجاز التمديد.
غير أنّ مصادر سياسية تؤكد أنّ ولوج باب التمديد أمر حتمي، وما تبقى من أيام رزمانة التقاعد للواء ابراهيم ستكون حاسمة نظرًا لأوضاع البلد وحال انهيار القطاعات كافة، والذي يسير الى مهاوي التفلت الشامل، وحاجة البلد الماسة في هذا الظرف العصيب الاستثنائي لخبرات وعلاقات اللواء ابراهيم وإمساكه بالملف الأمني بجهوزية عالية قد لا تتاح لبديل راهنًا قد يحتاج معها لشهور للإقلاع بالمؤسسة، والتي ستستهلك الترتيبات الإدارية وعدة الشغل الجديدة وفقدان خيوط التشبيك التي صاغها اللواء ابراهيم.
ولأن الولايات مضامير الرجال، فإن قادم الأيام القلائل سيحسم التمديد،فالضرورات تبيح المحظورات واللعب بالأمن استخفافًا واستهتارًا قاتل ..قاتل.
مفيد سرحال كاتب وباحث في الشؤون السياسية