منذ سنة والجدل حول العملية العسكرية الروسية الخاصة لم يتوقف حول موضوع الإستنزاف الذي يراهن الغرب الجماعي ان يؤثر على قدرات روسيا مع مرور الوقت وان يؤدي ذلك الى انكفاء روسيا وخضوعها وهذا الحد الأدنى الذي يتأمله الغرب ضمن سقف الأمنيات الذي يصل الى حد تحقيق الهزيمة في روسيا وتفكيكها على غرار ما حصل بعد انهيار الإتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن ال 20 .
رهان الغرب له أسبابه المرتبطة بالمسارات التي سلكتها الحقبة السوفياتية حيث كانت عمليات التغيير في تركيبة السلطة تحصل بعد كل انكفاء روسي وخصوصاً بعد اخفاق أفغانستان الذي كان المقدمة لتفكيك الإتحاد السوفياتي حيث دخلت اميركا حينها على خط المواجهة بشكل مماثل لما هو حاصل الآن مع أوكرانيا ، وفي حين ان أدوات اميركا في أفغانستان تمثلت بتنظيم القاعدة بشكل أساسي ، يتكرر الأمر نفسه في أوكرانيا والأداة هذه المرة السلطة والجيش في أوكرانيا .
اذن يعتمد الغرب الجماعي نفس المقاربة التي حصلت ما بعد الهزيمة السوفياتية في أفغانستان متناسياً ان المعركة هذه المرّة تدور بحسب ما عبّرت عنه القيادة الروسية وخصوصاً الرئيس فلاديمير بوتين على أراضي روسيا التاريخية وليس فقط أراضي الإتحاد السوفياتي ، فكييف عاصمة أوكرانيا كانت تسمّى حتى ما قبل نشوء الإتحاد السوفياتي بكييف روس ، واوديسا المدينة التاريخية تأسّست بمرسوم من الإمبراطورة الروسية كاترين سنة 1794، بعد سقوط الدولة العثمانية في حربها الكبرى مع روسيا سنة 1792، منذ عام 1819 ولغاية عام 1858 كانت أوديسا ميناءً حرّاً وخلال الحقبة السوفياتية كانت أهم ميناء للتجارة في الاتحاد السوفياتي، وقاعدة للبحرية السوفياتية. وهناك بالتأكيد مئات الأمثلة لا مجال لذكرها الآن كون المقال يقارب موضوعاً آخر ، لكن ايراد المثالين جاء للتأكيد على المقاربة الروسية الحالية واعتبار أراضي أوكرانيا كما في الماضي المجال الحيوي الطبيعي الذي يحفظ لروسيا امنها القومي من خلال اعتبار أراضي أوكرانيا الحد ألأمامي او خط الدفاع لمواجهة الحملات والهجمات من الجهة الغربية التي تستهدف روسيا .
وحتى لا اطيل في شرح الأسباب التاريخية التي تشكل اساساً في النظرو والسلوك الروسي سأحصر المقاربة بالمستجدات الحالية وطبيعة المواجهة وما يمكن ان تُسفر عنها في المستقبل ، إضافة الى توضيح إنجازات واخفاقات الطرفين المتحاربين روسيا من جهة والغرب الجماعي من جهة أخرى .
ورغم انّ المواجهة تتخذ حتى اللحظة البعد غير المباشر الاّ ان الغرب الجماعي حوّلها الى مواجهة شاملة في مختلف الجوانب السياسية والعسكرية والإقتصادية والثقافية عبر العقوبات التي شملت كل النواحي والدعم المالي والعسكري الغير مسبوق لأوكرانيا عبر تصريحات واضحة لا لبس فيها بأن الهدف هو ليس فقط ردع روسيا بل تحقيق الهزيمة فيها وإخضاعها .
جانب آخر لا بدّ من الإضاءة عليه وهو ان المواجهة باتت بالنسبة لروسيا والغرب معاً معركة وجود ، فروسيا لا يمكنها التراجع وبلع أهدافها المطروحة التي برّرتها بضرورات الأمن القومي واستمرار الكيان الروسي من عدمه ، وأميركا على رأس الغرب الجماعي ايضاً لا يمكنها التراجع لأنها ستضيف الى اخفاقاتها اخفاقاً سيهددها كدولة عظمى وهو الإمتياز الذي حقّقته بالهيمنة ونهب ثروات ومقدرات الشعوب .
في الجانب العسكري سأكتفي بمقاربة سريعة تشير بشكل واضح حجم الإستنزاف الذي تحقق بكل من روسيا والغرب الجماعي وهو مؤشر على ما ستكون عليه الخاتمة حيث بلغ حجم المساعدات المالية والعسكرية التي دفعها الغرب حتى هذه اللحظة 160 مليار دولار ، في حين ان روسيا تكلفت ما يوازي 15 % فقط من ميزانيتها العسكرية السنوية البالغة 50 مليار دولار أي ما يقارب 7،5 مليار دولار وهو مبلغ بسيط بالنظر الى ما حققته روسيا بما يرتبط بالسيطرة على حوالي 100 الف كلم مربع من الأراضي الأوكرانية في المقاطعات الأربعة التي ضمتها والتي تحتوي على معظم مناطق مناجم المعادن والملح و45 % من الأراضي الزراعية الإستراتيجية وكذلك السيطرة الكاملة على بحر آزوف الذي اصبح بحراً روسياً داخلياً ، إضافة الى سيطرة روسيا على 50 % من شواطيء أوكرانيا على البحر الأسود .
في الجانب العسكري من الواضح انه بالنظر الى السيطرة الروسية والكلفة المتدنية ان روسيا هي التي تستنزف الغرب الجماعي وليس العكس .
في الجانب الاقتصادي وعلى الرغم من العقوبات غير المسبوقة حتى على النواحي الثقافية والفنية والرياضية والتي تحصل لأول مرة لا تزال روسيا تؤمن معدلات اكلاف معيشة مستقرة لم تؤثر على المواطنين الروسي ، لا بل ان القطاعات التي تضررت من العقوبات يتم العمل على ملء الثغرات المرتبطة بها عبر تحفيز الإنتاج الوطني ، وكمثال ان هذه القطاعات ترتبط بشكل أساسي بادوات التكنولوجيا المختلفة التي كانت روسيا تستورد ما يقارب 70% من حاجتها وقطاع السيارات وقطع الغيار المختلفة بما يقارب نسبة استيراد تصل الى 75 % وقطاعات أخرى مرتبطة ببعض الكماليات .
كل هذه القطاعات تم وضع خطط لإنعاش وتحفيز الشركات الروسية الوطنية التي استطاعت خلال سنة واحدة ان تقلص نسبة الإستيراد لما هو مذكور أعلاه الى 40% بقفزة سريعة ومهمة طيرة تؤشر الى إمكانية استغناء روسيا خلال ثلاث الى اربع سنوات عن استيرادها من الخارج .
مثال آخر في الجانب الاقتصادي : استطاعت روسيا ان تجد بدائل سريعة في قطاع النفط والغاز عبر إتمام عقود توريد للصين وباكستان والهند ودول أخرى كبديل عن التوريدات التي كانت تصل الى أوروبا .
في الجانب الاقتصادي ايضاً لا يجب ان ننسى ان روسيا باتت تعتمد اكثر على الروبل في علاقاتها التجارية وتسعى مع الكثير من الدول الى الإعتماد الكامل على العملات الوطنية بينها وبين الدول التي ترتبط بها بعلاقات تجارية وهذا الأمر سيحصن الاقتصاد الروسي واقتصادات الدول التي تربطها علاقات تجارية بموسكو كمقدمة للتخلي نهائيا عن الدولار وهذا يعني على المدى المتوسط تهاوياً كبيراً في قدرة الدولار على التأثير في الأسواق المالية والتجارية وحدوث تحولات غير مسبوقة بما سيجعل الدولار على المدى البعيد عملة كغيرها من العملات في سوق التداولات المالية .
انطلاقا مما ورد جاءت كلمة الرئيس بوتين الأخيرة لتؤكد استمرار روسيا في المواجهة عبر تعليق مشاركة روسيا بمعاهدة ” نيو ستارت ” للحد من الأسلحة النووية ، جاء هذا الإعلان كجزء من خطاب حالة الاتحاد أمام البرلمان الروسي، والذي جاء معاديا للغرب بشدة، حيث ألقى بوتين باللوم على الغرب في الحرب المستمرة منذ عام، متهما إياه بمحاولة تحويل أوكرانيا إلى دولة “معادية لروسيا”، مشيرا إلى أن وجود دولته كان معرضا للخطر.
وقال: “أجد نفسي مضطرا للإعلان اليوم أن روسيا ستعلق مشاركتها في معاهدة الأسلحة الهجومية الاستراتيجية” ، وشدد على أنه لم ينسحب من المعاهدة، التي تحد من عدد الأسلحة النووية بعيدة المدى التي يمكن أن تمتلكها كل دولة، والتي من المقرر أن تنقضي في عام 2026.
اعلان بوتين في الحقيقة هو ورقة ضغط ورسالة ردع لا اعتقد ان الغرب سيغير بعدها من سلوكه تجاه روسيا ، فالمساعدات لأوكرانيا ستتدفق بشكل اكبر والمواجهة ستحتد اكثر وستتجه المواجهة الى تصعيد اكبر ممّا هو حاصل الآن وهو ما يمكن ان يأخذ الأمور في أي لحظة الى المواجهة المباشرة حيث سنكون عندها امام تقدير مختلف للموقف سيكون بداية تشكُّل مخاطر ستهدد العالم برمته وليس مسرح عمليات المعركة الحالية .
الخبير العسكري والاستراتيجي عمر معربوني