حين تناقش مسألة القومية، غالباً ما يتمحور الحديث حول تعريفات القومية الاجتماعية ونظرتها للعروبة والفلسفة والصراع مع العدو الصهيوني. ومجرد انتشار هذه التعريفات، عند مناقشة مثل هذه المواضيع، يتوضح للأسف، مقدار الفقر النظري في الانتاج عن القومية الاجتماعية، وهذا الفقر النظري لا يتلاءم مع كون القومية الاجتماعية إحدى أهم ظواهر العصر الحديث، الاجتماعية والسياسية في بلادنا.
كتاب الباحث السياسي «توفيق مهنا» الغني في مواده والحافل بالعمق الفكري حمل عنوان «القومية الاجتماعية والتحديات الراهنة.. قراءة في فكر أنطون سعاده: فلسطين والعروبة وبناء الدولة»…يضم هذا الكتاب أبحاث مختارة في القومية الاجتماعية، كان الباحث مهنا قد نشرها في فترات متفاوتة منذ تسعينيات القرن المنصرم وحتى الألفية الثالثة.
تمتد مسيرة «مهنا»، الثقافية والفكرية والسياسية والإعلامية، إلى أكثر من خمسة عقود، سعى خلالها إلى تكريس ثقافة قومية تنويرية، كان قد تربّى عليها في مدرسة سعادة، فهو مثقف من نوعية نادرة، احتفى طوال حياته بالحركة الإبداعية والثقافة الإعلامية، دون كلل أو وهن أو تنصّل من المهام، بل بقي مواصلاً ولا يزال يحمل الشعلة القومية مبشراً، ليسطّر عبر مشواره الطويل الحافل بالتحوّلات السياسية، المزيد من الطموحات المبتكرة، التي اجترحتها مخيّلته الفكرية والإعلامية، من خلال إصدار هذا الكتاب.
يعيد مهنا التأكيد على صوابية نظرة سعادة لمجتمعه، في القومية، والفلسفة والثقافة والعروبة. وهو يناقش بعض الأقلام المأجورة التي عملت على توجيه السهام إلى فكر أنطون سعادة الذي أغنى المكتبات العربية بمؤلفاته، وخصوصاً نشوء الأمم والصراع الفكري في الأدب السوري، والإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية، والمحاضرات العشر. ولعل أكثر تلك الأقلام وقاحة واسفافاً هو حازم صاغية (تنقل من الحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى منظمة العمل الشيوعي، إلى الناصرية، إلى تأييد ثورة الخميني وانتهى أخيراً في أحضان الوهابية، والترويج للتطبيع مع العدو الصهيوني مع توأمه ياسين الحاج صالح)، إذ حاول «صاغية» أن يحرض العروبيين والإسلاميين على سعادة، صاحب أهم مدرسة فكرية عقائدية ظهرت في المشرق كما قال الشهيد كمال جنبلاط (راجع مداخلته في البرلمان اللبناني عشية اعدام سعادة)، في حين اعتبر ناصيف نصار سعادة فيلسوفاً (راجع مؤلفه «طريق الاستقلال الفلسفي»)، لذلك رأى مهنا أن حملة صاغية على نظرة سعادة العروبية لا يبررها إلا حالة مرضية وعقد نفسية تظهر صاغية صغيراً أمام شخصية سعادة، وغاب عن بعض الكتاب الموتورين أن يدركوا أن النفخ في إذن الأمة العربية الميتة لا يمكن أن يبعثها حيةً، ولكن كان يمكن لمهنا الإشارة إلى رأي حكيم الثورة الفلسطينية الراحل جورج حبش الذي قال في حوار معه ـ وقد تم طبع الحوار ككتيب في مركز الدراسات الفلسطينية ـ قال «حبش» أن لا وجود للقومية العربية (رغم أنه من مؤسسيها) مؤكداً صوابية سعادة للعالم العربي، وقال لو طبقنا أفكار سعادة لما وصلنا إلى هذه الحال التي نحن عليها.
وهنا يهمنا تذكير «مهنا» أن المفكر المصري مصطفى الفقي (عمل مستشاراً للرئيس المصري الراحل حسني مبارك) كان قد دعا في سلسلة مقالات له نشرت في جريدة الحياة.. إلى إعادة الاعتبار لفكر أنطون سعادة، ومثله طالب المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري أيضاً بقراءة فكر سعادة وإعادة الاعتبار لفكره ونظرته للعالم العربي وللمجتمعات العربية.
إن دعوة سعادة إلى العروبة الواقعية اقترنت بتحقيق وحدة الأمة السورية لا بالقفز فوقها وتجاوزها، منطلقاً من فهمه للواقع الاجتماعي، ولدورات الحياة الاقتصادية والثقافية والتاريخية والحضارية، معتبراً أن العالم العربي يتكون من أربع أمم: الأمة السورية، وادي النيل، الجزيرة العربية، المغرب الكبير.
يفتح الباحث «مهنا» صفحات واسعة لرؤية سعادة للمسألة الفلسطينية.. ففي فلسطين نحيا قمّة التحدي، وعلى أرض فلسطين سوف يتقرّر مستقبل سورية الطبيعية والعالم العربي.
يرى «مهنا» أنه باكراً جداً تأكد صوابية ورؤية سعادة عن الولايات المتحدة الأميركية التي رأى أنها «سقطت من عالم الإنسانية الأدبي» (راجع مقالته في 1/5/1924)، فهل اختلفت سياسات الإدارات الأميركية منذ مصادقة الكونغرس الأميركي على انتداب كل من فرنسا وبريطانيا للبلاد السورية وعلى المصادقة على وعد بلفور… هل اختلفت تلك الإدارات على هذا النهج الاستعماري، من الاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب عام 1948 وصولاً إلى الجسر الجوي في حرب تشرين عام 1973، إلى دعم اجتياح لبنان سنهة 1982، إلى غزو العراق 2003، إلى عدوان تموز 2006.
أدرك سعادة أن الخطة الصهيونية ومشروعها خطر وجودي ومصيري ويتطلب محق الدولة اليهودية المصطنعة… لأن «لا عدو لنا يقاتلنا في ديننا وأرضنا وحقنا إلا اليهود». من يقاتل من إذاً؟ العدو يقاتلنا في وجودنا ومعتقداتنا وحقوقنا ومن حقنا أن نواجهه بكل ما نملك من طاقات قومية مادية وروحية لحفظ وجودنا.
إنها حرب على أصل الكيان ووجوده لا مع نظامه مهما كان شكله. ليست مسألة فلسطين ولن تكون تجمعات كتل بشرية دينية/ تلمودية بل قضية شعب محتل وغزاة.
لم تعرف المسألة الفلسطينية منذ بداية القرن الماضي الخطورة البالغة التي نعرفها في مثل هذه الأيام العصيبة. وقد عبرت الثورات الفلسطينية المشهورة في العشرينيات والثلاثينيات عن مواقف رافضة لمشروع التقسيم الذي رعته عصبة الأمم عام 47 ولا ننسى احراف وخيانة الأنظمة العربية التي تواطأت أو تلك التي سلمت بقيام دولة الاغتصاب وأخذت تبني سياساتها ومواقفها وتصعد من تحركاتها الدبلوماسية سعياً وراء وهم الحلول الدولية.
إننا أمام لحظات تاريخية فاصلة في حياتنا القومية، بل إنها أخطر اللحظات وهذا ما دعا «مهنا» إلى بناء مشروع مواجهة حقيقية على أرض النضال في الجنوب اللبناني، وفي الجولان وفي فلسطين، على أن يقوم مشروع المجابهة، فمثلث الجغرافيا القومية الواحدة في الجنوب والجولان وفلسطين، يرسم الطريق المشروع للمجابهة الفعلي الذي لا دعوة فوق الدعوة إليه في هذه الظروف.
————-
الكتاب: القومية الاجتماعية والتحديات الراهنة… قراء في فكر ومواقف أنطون سعادة: فلسطين والعروبة وبناء الدولة.
الكاتب: توفيق مهنا
الناشر: دار نلسن 2025