الدولة والعلمنة (الحلقة 16) «المجتمع المدني»: لبنان (النموذج) بين الواقع والمرتجى

شكّل لبنان بموقعه المميّز، وبدوره التاريخي الحضاري الثقافي، عقل محيطه الطبيعي وعالمه العربي، ففيه نشأت بعض الحضارات، وعلى أرضه تلاقت حضارات أخرى، ووفدت اليه ثقافات من غرب وشرق، غير ان هذه الحضارات والثقافات تلاقت مع بعضها البعض وتفاعلت، واختصرت لبنان واحة للحرية ومنارة للاشعاع وقمة للهداية ومسرحا خصبا لحوار الشعوب، والحضارات، والثقافات، وتقدمها.ومما لا شك فيه، ان الدولة في لبنان، نظريا، هي دولة مدنية، ودستورها دستور مدني، و«مجتمعها مجتمع مدني»، مقوماته تعدّد وتنّوع المؤسسات الأهلية. الا أن لبنان هذا في أساسه الدستوري القائم على المساواة والعدالة، يضعك، عمليا، امام واقعه الممزق بين لاءات المجتمع المدني وعوائقه، ويبقى الأمل في نهوض لبنان المرتجى على قواعد الاصلاح الحقيقي في بنيته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والادارية والثقافية، هذه البنية التي تحقّق كيانا حقيقيا لابنائه فيه يعملون وينتجون ويسعدون ويساهمون في خدمة مبدأ الخير العام للانسانية جمعاء.

   أما أنّ لبنان دولة مدنية، ودستورها مدني، فهذا واضح، في نصوص «الدستور اللبناني»، خصوصا في « مقدمة الدستور»، وفي فصليه، الأول «في الدولة وأراضيها»، والثاني «في اللبنانيين وحقوقهم وواجباتهم»(1).

   تشير «مقدمة الدستور» الى التزام لبنان بمواثيق منظمة الأمم المتحدة، والاعلان العالمي لحقوق الانسان، الذي سبق وتطرقنا اليه، كما تعلن هذه المقدمة أن لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، الشعب فيها مصدر السلطات وصاحب السيادة التي يمارسها عبر المؤسسات الدستورية.

   كما أكدت هذه المقدمة على قيام هذه الجمهورية باحترام الحريات العامة، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل.

   كما نصت هذه المقدمة على اعتبار الانماء المتوازن للمناطق ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا ركن اساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام.

   واعتبرت هذه المقدمة ان الغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية. وأقرت بالمساواة في الوحدة بين أفراد المجتمع: فلا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان، كما ورد في خاتمتها بميثاق العيش المشترك أساسا لشرعية أية سلطة. (2)

    وأكد «الدستور اللبناني» في المادة الأولى من الفصل الأول على أن «لبنان دولة مستقلة ذات وحدة لا تتجزأ وسيادة تامة». (3)

    أما الفصل الثاني من الدستور، فقد خصّص معظم مواده العشرة لتعيين حقوق اللبنانيين وواجباتهم، فقال بمساواة جميع المواطنين بالحقوق المدنية والسياسية، وقال بصيانة الحرية الشخصية، وقال بحرية الاعتقاد المطلقة وبحرية التعليم، وبحق كل لبناني في تولي الوظائف العامة باستحقاقه وجدارته، وقال بحرية الرأي والطباعة والاجتماع وتأليف الجمعيات، وقال بحرمة المنزل وحماية الملكية… (1)

   نستنتج مما تقدم، أن «الدستور اللبناني» يحمل بين طياته كل المقومات الضرورية لقيام مؤسسات المجتمع الأهلي وصيانتها وحمايتها. الا انه في الواقع، في التطبيق، فإن «الدولة اللبنانية» منذ وضع دستورها في عهد الانتداب الفرنسي عام 1926، وما رافقه من تعديلات وتأكيدات واشارات لمدنية الدولة ومؤسسات المجتمع المدني فيها، الا انه بالرغم من ذلك، فما زال «النظام الطائفي» القائم على العرف، لا على الدستور، هو الذي يتولى السلطة في الدولة اللبنانية، على أساس المحاصصة الطائفية، التي بدت وللوهلة الأولى أنها بصورة مؤقتة، ولكنها في الحقيقة بصورة دائمة، على الأقل حتى يومنا هذا.

   باختصار ان « الدولة اللبنانية» المدنية المنتظمة في « الدستور اللبناني» المدني، هي دولة قابلة للحياة المدنية. في تكاملها، مع مجتمع أهلي، في إطار ثقافة وطنية موحدة وشاملة.

   قد يعترض البعض على الدعوة لتطبيق العلمنة، ويرى أبعد من ذلك، أنه « من الصعب تطبيقها… في دولة تتولى الطوائف السلطة فيها، ويحكمها نظام راسخ في الاعراف»(1).

   والحل في ذلك، يقولون « انطلاقا من الواقع الملموس نرى أن العلمانية في لبنان، كنظام سياسي بديل عن النظام الطائفي، تصطدم بخصوصية المجموعات الثقافية اللبنانية المتمسكة بشريعتها، وأنظمة القيد الخاصة بها، في أمور الزواج والطلاق والوفاة الوراثة وسواها، لأنها تشكل العنصر الأساسي المكون لشخصية كل منها».

   ويجد هؤلاء المعترضون « في خصوص الغاء الطائفية السياسية التي نص عليها اتفاق الطائف (مقدمة الدستور)، فهي، نظرا لتركيبة المجتمع اللبناني التعددية، ليست سوى أداة تهويل يستخدمها أشد الناس تعصبا طائفيا بهدف السيطرة على مقدرات الدولة والحكم بقبضة حديدية تلغي الشركاء في الوطن وترسي مبدأ العددية، وان أية محاولة لالغاء الطائفية السياسية في ظل نظام مركزي وحدوي لن تكون حلا للحالة الطائفية في لبنان، بل تشكل انتهاكا لخصوصية المجتمع اللبناني»؟ (2)

   ويرى هؤلاء المعترضون ان الحل ليس بفكرة مركزية الأمة-الدولة، بل « بطرح تطبيقي للنظام المركب المسمى نظام فيدرالي او مناطقي او اللامركزية السياسية الموسعة، الذي يضمن وجود المجموعات اللبنانية الحضارية، خارج كل شكل من أشكال الذمية او التبعية، كما يؤمن لكل منها إطار عملي تمارس فيه خصوصياتها الثقافية والفكرية، والتربوية والتشريعية… (1)، متناسين هؤلاء ان النظام التعددي يستقيم وجوده بالتوازن والتكيف المتبادل بين عناصره (2). لا بالتقسيم.

   هذا التباين في الموقفين المتعارضين، بين «الدستور اللبناني» وبين المعترضين عليه في دعوتهم المبطنة الى التقسيم، يطرح السؤال: إذا كان يستحيل بناء الدولة على الثنائيات او الثلاثيات الطائفية، وهذا كلام حق، فكيف تدار «الدولة» الآن، وما هي حظوظ الآخرين المفتوحة للمشاركة الحقيقية؟ وهل يمكن بعد كل هذه التجارب التاريخية المريرة من الثنائيات والثلاثيات، ان نوفق الى صيغة «طائفية عادلة» ثبت حتى الآن استحالتها، ام ان في الأفق مكانا لدولة مدنية لا دينية، ولا طائفية…؟ (3)

   المجتمع في لبنان الغد المرتجى أمام خيارين الزوال في ظل «انتعاش العنصرية» (4) فيه، او الحياة في ظل مجتمع مدني أهلي يبنى على المحبة التي هي الطريق الالزامية نحو العدل والمساواة، ونحو اقامة مجتمع تنتصر فيه وحدة الحياة في إطار مشروع وطني يقوم على ثقافة وطنية جامعة تنصهر فيها مختلف التيارات والطوائف والمذاهب والثقافات عبر قوانين وأنظمة مدنية حديثة، خصوصا على صعيد تحديث قوانين الانتخاب والأحوال الشخصية وانشاء الأحزاب.

   ان لبنان النموذج، ليس لبنان العنصرية انما هو لبنان الموحد في مجتمعه الأهلي، الموحد في نظرته الى الحياة، الموحد في تطلعاته وأهدافه المستقبلية، الموحد في مفاهيمه للقضايا الكبرى التي تواجهه، والمشاريع والمؤامرات الكبرى التي تستهدفه لتعطيل دوره الحضاري-الريادي.

   ان لبنان الغد المرتجى لا حياة له خارج محيطه الطبيعي، وفي وعيه للأخطار المصيرية التي تواجهه وفي مقدمتها الخطر الاسرائيلي، وتدخل الارادات الأجنبية.

   ان لبنان الغد المرتجى هو لبنان – الرسالة، لبنان الذي يبقى بالمحبة والتراحم الداخلي بين أبنائه، وبقوته التي يجسدها جيشه الوطني ومؤسسات المجتمع الأهلي فيه، ولا معنى للبنان وراء ذلك.

   ان لبنان الغد المرتجى هو الدولة الديمقراطية، التي تعبر فيها حكومتها عن حقيقة والأمة واماله وتعمل لغده حكومة رجالها حكماؤها لا حكامها، كان أرسطو يردد دائما: «ان ادارة الدولة مسألة تحتاج الى أفكار أعظم العقول وأحسنها، اذ كيف يمكن انقاذ مجتمع أو جعله قويا، الا إذا تولى أمر هذا المجتمع أحكم رجاله وأعقلهم»؟

   فأين لبنان من الدولة الذي يكون فيها المسؤول مسؤولا، ان مشكلة لبنان، باختصار، لا بل معضلته، ان المسؤول فيه غير مسؤول، على حدّ تعبير الرئيس سليم الحص، الذي يعتبر أن الأزمة التي يعاني منها لبنان تنتهي، عندما يعود قادة لبنان الى التمسك بولائهم للبنان دون سواه، وعندما يقررون أن يلتزموا موقع المسؤولية الوطنية في القول والعمل (1). يتبع (الحلقة الأخيرة).


(1) – الجمهورية اللبنانية، وزارة العدل: الدستور اللبناني، الصادر في 23 أيار سنة 1926، مع جميع تعديلاته، طبعة 1995، راجع ملحق “الدستور اللبناني”.

(1) – لبناننا: نشرة، صادرة عن مركز للدراسات والانماء والابحاث، العدد004-ايار2007، ص10 والمقالة تحت عنوان: ” بين الوحدة المصطنعة والتقسيم.. النظام المركب هو الحل”!؟ ص 6-11

(2) – لبناننا: المرجع السابق نفسه، ص 8

(2) – ر. ماكيفر:  تكوين الدولة، ص 500

(4) – صقر ابو فخر: السفير، 23-3-2005، العدد 10051 ، ص 19