يخبرنا الفيلسوف ابن رشد بشرحه كتاب «السماء والعالم» للفيلسوف الإغريقي «أرسطو» بأنّ الماء والهواء يتولدان من عدد من المثلثات، كما كان أرسطو على درايةٍ بأنّ الفيلسوف والرياضي «بيثاغوروس» مثّل العدد ثلاثة بالمثلث، أمّا بالنسبة للسوريين القدماء فقد كان للمثلث عندهم شأن أخر، وذلك من خلال إقحامه في عالم الترميز بشكل أقدم وأعمق، فدلّ المثلث المتساوي الساقين في الفكر السوري القديم على الذكورة بينما مثّل المثلث المقلوب الأنثى ومن تلاقي الذكر والأنثى تنتج وتستمر الحياة. إنّ المثلث هو رمز للألوان الثلاثة الأصلية الأصفر والأحمر والأزرق، وكذلك هو رمز لأصل وسبب توالد الإنسان واستمراره على هذه الأرض، فقد استخدم المثلث كرمزِ للمرأة الوالدة والمنجبة والمربية للجنس البشري، وقد ظهر هذا التمثيل كرمزِ لها في العديد من المواقع الأثرية العراقية منذ عصر العُبيديين حوالي الألف السادس قبل الميلاد.
إنّ مجموعةً من المخاريط الجصية الملونة والتي تُظهِر العديدَ من الأنماط الزخرفية، والمكونة من مثلثات ومعينات وخطوط متعرجة، والتي نفذت في بعض مباني مدينة أوروك(الوركاء) خلال الألف الرابع قبل الميلاد. كما شاع تمثيل شكل المثلث في مدينة حبوبه الكبيرة والتي تقع على الضفة اليمنى للفرات الأوسط في نفس المرحلة.
عندما ابتكِرتْ الكتابة السومرية حوالي العام 3330 قبل الميلاد كان المثلث المقلوب الرأس، والمزوّد بخطٍّ قصيرٍ عامودي منطلق من ذاك الرأس هو ما يبين العلامة الأكثر قدماً للدلالة على المرأة، أمّا في عصر السلالات الباكر الثالث 2500-2350 قبل الميلاد، فقد عثر في نيبور على إحدى الدمى، والتي من الواضح عليها رسم المثلث المقلوب وتمثيله للمرأة، كما رمز لها بالمثلث من خلال رسوماته على الفخار أو على الأختام الاسطوانية، كذلك فإنّ المثلث الموضوع على قاعدته والذي يعلوه خطٌ أفقي وقرصٌ يكون علامةً ورمزاً للإلهةِ «تانيت» Tanit سيدة قرطاج وزوجة «بعل»، لقد كانت «تانيت» إلهةً كبيرةً عند القرطاجيين، وهي الشريك الأساسي للإله بعل الإله الأول في قرطاج، كما أنّ اجتماع المثلث مع دائرة على بعض الآثار المكتشفة من مدينة جبيل كان رمزاً للإلهة عشتروت، أمّا بالنسبة لمناطق أخرى من سوريا فقد كان المثلث رمزاً دالاً على الشمس، ومن الممكن أن يكونَ رمزاً مستمداً من الهرم، وهذا الشكل الهرمي هو تجسيد لوحدانية النفس. وفي العصور الكلاسيكة كانت المثلثات سواءً متساوية الساقين ورأسها إلى الأعلى أو المقلوب منها يدل على مفهومين اثنين المذكر والمؤنث، وكذلك دلّ المثلث متساوي الساقين ورأسه للأعلى على الروح الحيّة، ففي العصر الروماني جعل الكورنيش في الأبنية على شكل مثلث، وكذلك هناك أنموذج من مسلّاتٍ لشواهد قبور كانت على شكل مثلث وهي ما تدعى Stelae، وقد تحدث الفيلسوف جامبليخوس (فيلسوف المدرسة الأفلاطونية المحدثة في أفاميا)عن الموناد والداياد والتراياد ورمز لها بمثلث، وفي الديانة المسيحية يمثل المثلث(الرقم ثلاثة) الأقانيم الثلاثة، ويمكن الإشارة هنا إلى وضعية الأصابع الثلاثة (الإبهام والسبابة والوسطى) المضمومة إلى بعضها والمتلاقية في نقطة واحدة عند رسم المتعبد للصليب ليدل بتلك الأصابع على الثالوث المقدس أيْ؛ الأب والابن والروح القدس، وفي الصليب الجرماني نستطيع أن نرى أربع مثلثاتٍ تدل على اتجاه الجاذبية أو النقطة المركزية.
لقد كان للأشكال الهندسية ومنها المثلث عاملاً مهماً لحثّ الإنسان السوري على البحث والمعرفة والترميز، ففكرة الترميز هي عملية تبسيطية وإيحائية للدلالة والتعبير بشكل مبسّطٍ على ما هو موجود في الفكر، وتلك الأشكال الهندسية التي رمّز بها الإنسان السوري نقلها من السماء إلى الأرض، قبل أن يدون الفيلسوف الإغريقي «أرسطو» كتابه السماء والعالم بآلاف السنين، فمن قام بمراقبة السماء وأفلاكها وأبراجها ووضع النظام الحسابي وقسّم الزمن ووضع تقويماً شهرياً وفصلياً وسنوياً، واستطاع رصد كواكب المجموعة الشمسية منذ الألف الثاني قبل الميلاد، كان قادراً على الولوج إلى عمق الميثولوجيات والعقائد برمزية مطلقة.
الدكتور عبد الوهاب أبو صالح