مدينة رأس العين في الجزيرة السورية هي جزء مهم من الذاكرة السورية المَنسية، فهذه المدينة الموغلة في التاريخ، تناهبتها الهمجية التتارية والتركية، واجتاحت تاريخها الطويل بسيل من الدماء، لوّث سفوحها وريفها وينابيعها وأزقّتها ودروبها. ورغم كل ما مر بها ويمر إلا انها بقيت مدينة للتنوع الارمني والسرياني والعربي، والكردي، والتركماني، والشيشاني.
تاريخياً
مدينة رأس العين تقع في الشمال الغربي من الجزيرة السورية، ضمن محافظة الحسكة التي تقع في الشمال الشرقي من سوريا، وتبعد مسافة 85 كم عن مدينة الحسكة، وهي تجاور الحدود التركية.
إنها قديمة قدم التاريخ وكانت تعرف بأسم كابارا في العهد الأرامي، وغوزانا في العهد الأشوري ورازينا أو رسين او (رش عينا)، وتيودسليوس في العهد الروماني ثم سميت رش عينو وبعد ذلك سميت قطف الزهور وعين ورد و(رأس العين) و (عين الوردة) بسبب وقوعها على أكبر عيون ومنابع نهر الخابور.
هي بالفعل جنة من جنان الأرض في الجزيرة السورية، فهي تجمع بين الطبيعة الخلابة والأرض الزراعية الخصبة ووفرة المياه والموقع الاستراتيجي الذي كان يربط بين بلاد الرافدين والبحر المتوسط، لذلك كانت من أوائل مواطن الحضارة بعد الثورة الزراعية، مواقعها الثلاثة التي تعرف اليوم باسم «رأس العين– تل حلف– تل الفخيرية» تختزن تاريخ المنطقة وذاكرة العصور لدهور تزيد على ستة آلاف عام، وأحد أهم المراكز الحضارية في بلاد ما بين النهرين عبر العصور، تبوأت مكانة مرموقة عبر التاريخ ويكاد كل موطئ قدم يحكي قصة من تاريخ المنطقة، ولأهميتها وطغيان حضارتها خلال الفترة بين حوالي 3000ق.م وحتى حوالي 2000ق.م يطلق الباحثون على تلك الفترة اسم «حقبة تل حلف» وهي الفترة التي بلغت الحضارة في «تل حلف» أوجها وكانت المركز الذي يحكم «الشرق الأوسط» والعالم.
لكن مع مطلع الألفية الثالثة، بدأت آخر ينابيع رأس العين بالنضوب لتخبو معها سيرة نهر الخابور الهدّار، ولتستخرج المياه عبر مضخّات تستجر المياه الجوفيّة، وضع أكبرها بالقرب من قصر أصفر نجار وأخرى في نبع الكبريت، لم توضح الدولة فيما إذا كانت المياه نضبت من تلقاء نفسها ولعوامل جيولوجية صرف؟ أم أن السياسات المائية التركية الجائرة تسببت بالنضوب؟
تُرك الأمر للآراء الشخصية والتقديرات والخبرات المحلية، إذ كيف لينابيع نضحت منذ مئات السنين أن تجفّ على هذا النحو المؤلم.
أرض الترحيل
رأس العين أصبحت مكاناً للتجمع الرئيسي للأرمن المرحلين من الأناضول، بحلول أيلول/سبتمبر 1915، بدأت مجموعات اللاجئين (تتكون عادة من النساء والأطفال) في الوصول بعد رحلة مرهقة، في نيسان/أبريل 1916، أبلغ القنصل الألماني عن «مذبحة مرة أخرى في رأس العين»:( يتم ترحيل 300 إلى 500 من المرحلين من معسكر الاعتقال كل يوم ويتم ذبحهم على مسافة 10 كم من رأس العين). في صيف عام 1916 بدأت الحكومة التركية جولات جديدة من المذابح في مناطق دير الزور والرقة ورأس العين. حيث ذُبح أكثر من 80000 أرمني في رأس العين، ووفقاً للتقارير، وصلت في يوم واحد فقط 300-400 امرأة إلى المخيمات عاريات تماماً ونهبت من قبل الشيشان والدرك المحليين: جميع الجثث، دون استثناء، كانت عارية تماماً وأظهرت الجروح التي أصيبت بها أن الضحايا قتلوا، بعد أن تعرضوا لوحشية لا توصف. لم يكن هناك خطأ في سرقة وقتل المرحلين، حيث أمر حاكم الولاية بقتل الأرمن المرحلين. دورري (ديري) بك، نجل الدفتردار التركي جمال باي من حلب، كان الجلاد السامي الرسمي للأرمن في رأس العين، هذا الوحش، بعدما سرق مجوهراتهن، اختار الفتيات الصغيرات من عائلات جيدة وأبقوهن للحرملك.
ولعدة مرات، تم تصفية مخيمات بأكملها في رأس العين كاضطهاد ضد أوبئة التيفوئيد. وفقاً للسفير الأمريكي هنري مورغنثاو، فقد كان وجود المسافرين الأرمن البائسين، وصولاً إلى رأس العين، «رعباً طويلاً»
سنوات الجمر
تُعدّ مدينة رأس العين من المدن التي تحظى بتنوع سكاني معقّد، قائم على أساس عِرقي وديني، إذ يتشكل سكانها من السريان والعرب والأكراد والأرمن والشيشان والتركمان، فضلاً عن التنوع الديني مثل المسلمين والمسيحيين والإيزيديين وغيرهم
وقد شهدت سنوات الجمر السورية، عمليات تهجير جماعي للمسيحيين، خلال فترة سيطرة التنظيمات الإرهابية عليها، ففي مطلع عام 2013 كان يُقيم فيها نحو 400 عائلة مسيحية، الذين يُعدّون أحد أهم المكونات الرئيسية لنسيج المدينة، لم يتبقَ منهم سوى 40 عائلة في عام 2019.
هذه المدينة منذ عام 2011 كانت أرضاً لصراعات عسكرية وقوى متداخلة تسعى للسيطرة عليها، ففي 15 تشرين الثاني /نوفمبر 2011 سيطر عليها الجيش الحر، ثم سيطرت عليها قوات الـــ PYD الكردية في 2013، حتى عام 2019 عندما دخلتها القوات التركية ضمن عملية «نبع السلام».
وأفضى احتلال تركيا رفقة ميليشياتها رأس العين وتل أبيض أواخر 2019 إلى تجريف البنية المجتمعية القديمة لصالح بنية جديدة قوامها مجتمع المليشيات، وعوضاً عن اقتصاد الزراعة والتجارة البسيطة والخدمات حلّ اقتصاد السرقة والغصب والنهب، وبدلاً عن حكم المدينة كوحدة إدارية بات حكم الحواجز والأحياء ومناطق النفوذ.
ويبدو أن مدينة (رأس العين) ستبقى مركزاً لذاكرة الألم المتوارث للتصفيات العرقية التي قامت بها تركيا. ويبقى ملف المدينة أحد أكثر الملفات المعقدة؛ نظراً لتنوعها الإثنيّ والدينيّ، وبالتالي يحتاج إلى تعاملٍ من نوع خاص يضمن حصول جميع مكوناتها على حقوقهم الثقافية والاجتماعية والدينية.
ملكون ملكون – السويد


