مفهوم الانسان والأرض في الخرافة اليهودية إزاء حقيقة انساننا وأرضنا – الحلقة الرابعة
من الضروري جداً ونحن نبحث في مقولتي الانسان والأرض الاساسيتين في صراع الوجود أن نبحث خرافة الشعب والأرض كما تصورهما العقيدة الصهيونية العنصرية الخرافية الاستيطانية.
فمفهوم الصهيونية الأساسي للمقولتين هو مفهوم خرافي عنصري تحلّه محل حقيقة الشعب والأرض في المفهوم العلمي للمقولتين. فمفهوم «الشعب اليهودي» الذي ارتكز عليه الفكر الصهيوني ثم اعلان قيام إسرائيل، بل عضوية دولتها، يقوم على اعتبار معتنقي الديانة اليهودية من أي مجتمع كان، «شعباً واحداً» رغم التاريخ ورغم الجغرافيا ورغم علم الاجتماع. هنا المصدر الخرافي لمفهوم الشعب في العقيدة الصهيونية وقيام إسرائيل. فواضح أن يهود الحاضر خاصة الأوروبيين منهم لا يمتّون بنسب أو حسب أو صلة تاريخية الى يهود التوراة ومع ذلك فهم أصحاب الحق في فلسطين حسب زعمهم، بل هم على تباين أصولهم وعلى كون الشذوذ كل الشذوذ في اعتبار معتنقي الديانة اليهودية الفرنسي أو الأميركي أو البولوني بمجرد اعتناقه تلك الديانة أصبح ينتمي الى أمة وهمية وشعب خرافي أرضه ليست أرض فلسطين في الاستمرار التاريخي والاجتماعي أو أية أرض في العالم كما هي باقي الشعوب في الواقع البشري والجغرافي والاجتماعي، بل أرضه أسطورة توراتية.
وأغرب ما يسمع ويقرأ ما يقوله معبّراً عن هذه الخرافة رئيس الوزراء الإسرائيلي شمعون بيريز في خطابه امام المعهد الملكي البريطاني للدراسات الاستراتيجية في 22 كانون الثاني 1986: «شكل وعد بلفور عام 1917 نهاية النفي اليهودي والعودة الى وطننا مرة أخرى تجمعت قبائل إسرائيل المتفرقة في الأرض والتي شهدت بداية التاريخ اليهودي». ذرّة من العلم لا توجد في هذا الكلام الخرافي. وكيف أن «قبائل إسرائيل» لم تزل قبائل في العصر الاجتماعي في العالم وأية قبيلة هي في فرنسا، أو بريطانيا، أو المانيا، أو روسيا، أو اميركا؟ أرأينا كيف ينعكس التاريخ التوراتي بعد ألفي سنة دون تغيير على واقع القرن العشرين؟«
غير أن الصهيونية حسب كل الحسابات، فعدا مصالحها المشتركة الاقتصادية والاستراتيجية مع الامبريالية اهتمت بترسيخ أقدامها في تربة هي الدعامة لمصالحها المادية مع الامبريالية، وهو جانب غفل عنه انتباه العرب ولم يعطوه حجم الاهتمام. انه الجانب الروحي الديني في غزوها للمسيحية الغربية الذي مكنها من إرساء نفوذها في الغرب ليس فقط على المصالح المادية التي قد تتبدل، بل على قناعات شعبية دينية توفر لحلف المصالح الشريرة بركة روحية شعبية ساذجة ضمن المجتمع الأميركي والمجتمعات الغربية عامة.
ان اللوبي الصهيوني للجالية اليهودية في اميركا له دور ونفوذ. ولكن الأصولية البروتستانتية المسماة الأصولية المسيحية بقيادة جيري فالذيل وباستر برتسون – والانجيليون البروتستانت البالغ عددهم أربعون مليون هم أضعاف الجالية اليهودية والأكثر حماساً للصهيونية وإسرائيل. وهم يعتقدون بالالتزام الحرفي بالتوراة سياسياً ان قيام إسرائيل هو الممهد لمجيء المسيح وأن من يحارب إسرائيل يحارب الله.
ولقد عرض أحد قادة الحركة الانجيلية الأميركية بيلي غراهام فيلماً توراتياً مسيّساً بعنوان «الأرض» قبل سنوات حول نبوءات العهد القديم المتحققة بقيام إسرائيل.
وليس هذا الاتجاه بجديد، بل يعود الى بداية عهد البيورتان الإنكليز الذين تعصبوا للتوراة واعتبروا أنبياءها هم قديسيهم في وجه قديسي الكنيسة الكاثوليكية الى حد أن الأسماء الأكثر شيوعاً عند هجرتهم الى اميركا كانت أسماء بنيامين ويوناثان وجوداً التوراتية.
وقبل اميركا مهدت هذه الاعتقادات في بريطانيا في أواخر القرن الماضي ومطلع هذا القرن مع المصالح الاستعمارية البريطانية الواضحة لوعد بلفور ان المسيحيين المتصهينين سبقوا الصهاينة في الدعوة الى إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين.
حتى العلماء والمؤرخون من أمثال المستد يروي تاريخ العالم القديم بكل دقة اما فلسطين فمصدره التوراة.
ان أخطر ما في أسطورة أو خرافة «الشعب اليهودي» الوهمية اعتبار استمرار الديانة اليهودية كأنه استمرار لشعب واحد وموحد واعتبار بالتالي سنداً للتوراة .أن اليهود خارج فلسطين أياً كانت اصولهم وانتماءاتهم القومية والعرقية والاجتماعية كانوا في «حالة شتات» استمرت ألفي سنة والآن تتحقق النبوءات بعودتهم.
لقد وقفت الكنيسة الكاثوليكية بإرشاد القديس أوغسطين منيعة ضد هذا الاختراق اليهودي طوال العصور حين اعتبرت حسب أوغسطين بأن اسطورة الشعب المختار انتهت بمجيء المسيحية وأن التفسير الروحي لا المادي للتوراة هو المعتمد.
لكن الصهيونية استطاعت وئيداً ومنذ الحرب العالمية الثانية أن تبدأ بنسج خيوط العلاقة ببطء مع الفاتيكان. – (راجع مقال سعادة: النفوذ الصهيوني في الفاتيكان – 1942) – وكانت بداية هذه العلاقة بحملة على الفاتيكان تتهم البابا بيوس الثاني عشر بصمته إزاء المذابح النازية رغم أن الصهيونية نفسها صمتت إزاء هذه المذابح، بل تواطأت مع النازية لتهجير اليهود الى فلسطين. واستمرت الصهيونية في محاولاتها حتى كان قرار تقسيم فلسطين. وكان الموقف الفاتيكاني أميل لعدم التقسيم لكنه قبل به في سبيل تدويل القدس الذي نص عليه مشروع التقسيم.
وفي 1967 اجتاحت القوات الإسرائيلية الجانب الشرقي من القدس-القدس القديمة التي تقوم فيها الكنائس التاريخية وأهمها كنيسة القيامة، ومع ذلك فقد عمدت إسرائيل الى استصدار اجراء شكلي تمويهي هو حماية الأماكن المقدسة وحق العبادة- هذا الأجراء الذي لم يمنع الاعتداءات الصهيونية المتكررة على الأماكن المقدسة ورجال الدين المسيحيين والمسلمين. غير أن الصهيونية كانت قد توصلت بواسطة بعض الكرادلة الاميركيين والالمان (الكرينال بيا تخصيصاً) الى صياغة نص في وثيقة المؤتمر المسكوني الثاني في حول الموقف من اليهودية شكل انقلاباً في موقف الكنيسة الكاثوليكية التاريخي. تأسيساً على هذا الموقف شكلت في 1974 لجنة الحوار الفاتيكاني – اليهودي، وفي أيار 1985 أصدرت وثيقتها التي نشرت في جريدة الفاتيكان الرسمية في 25 حزيران 1985 وهي وثيقة لم تحدث رغم خطورتها البالغة أي انتباه أو ردّ فعل في الأوساط العربية ولا الأوساط المسيحية المشرقية كما أحدثت وثيقة 1963 الأقل تطرفاً.؟
اننا هنا إزاء تحديات ثلاث مهمة وفاصلة:
- اننا مدعوون الى المصالحة مع جذورنا الحضارية، لأنه لا يكفي أن نشجب التضليل الصهيوني طالما نحن عازفون عن الانتساب لهذه الجذور أو درسها ووعيها والاعتداد بها ونشرها على العالم. ان مواجهة الأضلولة اليهودية والصهيونية تقتضي منا مصالحة مع هذه الجذور.
- ان المسيحية المشرقية الأنطاكية يجب أن تأخذ دورها في الحوار المسيحي – المسيحي العالمي. اننا دون ريب نعتب على كنائسنا في تراجع اهتمامها بهذا الشأن. ونذكر نداء البطاركة المشرقيين الأنطاكيين الهام في 1971 ضد تهويد القدس وضد الصهاينة بل نذكر مواقف بطاركتنا المشرقيين الانطاكيين في المؤتمر المسكوني الفاتيكاني الثاني ضد وثيقة تبرئة اليهود. ان هذا الاهتمام خفّ وتراجع في العقد الأخير رغم بعض المواقف والخطب.
- ان المسيحية السورية الانطاكية المشرقية – مسيحية انطاكية والقدس هي أساس المسيحية ولا يجوز أن نتلقى من الغرب وعواصمه تعليماً يخص المسيحية ومشرقنا ومصيرنا وكأنه الأمر المنزل. نريد بطاركة ومطارنة وشمامسة أكثر اصراراً على الحق القومي من الحكام، عندها هم يعطون الضمانة الوطنية للمسيحيين بدل أن يبحث بعض المسيحيين عن ضمانة لهم في أساطيل الغرب أو جيش العدو الصهيوني.
إنعام رعد