حديث النصر والهزيمة ومفاعيل الصمود

فور اندلاع الحرب في السابع من تشرين أول 2023 جرت محاولات كثيرة لوقفها وشاركت بهذه المحاولات قوى عالمية واقليمية ذات تأثير على طرفي الحرب، إلا إنها لم تصب نجاحاً وكانت هناك محاولة ثانية في ايار من العام الماضي لتلقى ذات المصير حتى ان المبادرتين بفشلهما قامتا بتسعير نار الحرب. فيما نجحت المحاولة الثالثة الأخيرة والتي كانت عوامل نجاحها من خارج ميدان المعارك ونتائج القتال، فالمقاومة وأهل غزة أظهروا من الصبر والشجاعة ما يفوق قدرة العقل على تصوره فيما (الاسرائيلي) كان ماضيا في سياسة القتل وتدمير المدمر وهدم المهدم.

 جاءت الصفقة انعكاساً لمجموعة من المتغيرات الإقليمية والدولية كان أهمها ما تعرضت له المقاومة اللبنانية من الضربات المؤلمة التي أدت إلى خروجها من حاله الاسناد والدعم وانكفائها إلى الداخل، كذلك انكفاء الدور الايراني وسقوط النظام في دمشق، اضافة إلى فوز دونالد ترامب في الرئاسة الامريكية، حيث كان نتنياهو قد عطل الكثير من المحاولات لا نهاء الحرب خلال الحملة الانتخابية في واشنطن على قاعدة ان تحقيق وقف لإطلاق النار سوف يرفع من فرص فوز المرشح الديمقراطي فيما هو يرغب ويسعى لفوز الجمهوري دونالد ترامب.

على مدى أيام طويلة من التفاوض، حتى بعد الوصول للاتفاق تداولت الأوساط الإعلامية أخبار مكثفة حول ما كان يجري كما صدرت تصريحات يتنافس فيها المصرحون حول أحقية من ينسب له هذا الانجاز وذلك ما بين المحورين الاقليميين: محور قطر- تركيا- الاخوان ومحور السعودية – الامارات – مصر .كذلك دار سجال في واشنطن  كما بدا واضحاً في خطاب بلينكن أمام قمة الاطلسي حيث اعتبر ان وقف الحرب كان من انجازات الإدارة الديمقراطية فيما تفيد مصادر ترامب بتبجح انه استطاع بهيبته انجاز وحل عدد من المسائل العالقة حتى قبل استلامه مهماته الدستورية ومنها وقف الحرب في غزة. 

نشرت أخيراً نصوص الاتفاق التي تتحدث عن مواعيد انجاز الانسحابات ومواعيد إطلاق سراح الأسرى وقوائم بأسمائهم، ولكن الصيغ العامة كانت ملتوية وملتبسة بحيث يستطيع كل طرف ان يدعي الانتصار، وانه قد حقق ما اراد ولعل في الملاحق غير المنشورة تربض الشياطين وكذلك الوعود التي سيتم الالتزام بتنفيذها لصالح دولة الاحتلال فيما قد يتم الالتزام ببعض منها لصالح غزة.

صباح أول أمس الاحد بدآ سريان الاتفاق، وبما ان النصوص ملتبسة كما سلف القول، وبسبب طبيعة السلوك الاسرائيلي المعروف الذي يريد اثبات انه هو فقط من يضع القواعد والضوابط، قام باختلاق مشكلة قوائم اسماء اسراه كشرط للشروع في سريان العمل بالاتفاق، الامر الذي لم تخضع له المقاومة التي نشرت عناصرها في شوارع غزة.

بعيدا عن حديث النصر والهزيمة، و في جردة حساب يمكن القول ان مطالب المقاومة كانت خمسة وهي الانسحاب الكامل من قطاع غزة ووقف شامل لإطلاق النار وفتح المعابر واعادة الاعمار وتبادل السجناء، فيما كان البرنامج الرسمي للحكومة (الاسرائيلية) يتحدث عن سحق المقاومة مرة واحدة وإلى الأبد، وتحرير الأسرى من اماكن احتجازهم عنوة وبالقوة ودون قيد أو شرط، وافراغ شمال غزة من سكانه واقامة مستوطنات فيه، والبقاء العسكري في معظم القطاع والسيطرة الكاملة على موقعي فيلادلفيا وناتساريم والأخطر تهجير اعداد كبيرة من اهل غزة إلى سيناء ومنها إلى جهات الدنيا الأربع. 

اما النتيجة فكانت الانسحاب (الاسرائيلي) من معظم قطاع غزة بما فيها موقعي فيلادلفيا وناتسريم، وان القوى الأمنية التابعة لحكومة غزه (حماس) موجوده في مواقعها ومكاتبها لحفظ الامن وذلك خوفا من الفراغ الذي لم تستطع (اسرائيل) ان تعبئه لا بالاحتلال المباشر ولا عبر هيئات من صنائعها، ويفترض ان المعابر ستفتح كليا أو جزئيا، وان الاعمار ستتولى تمويله جهات خليجية فيما تقوم مصر عبر شركاتها الخاصة بتنفيذه، اما اطلاق سراح الأسرى فتلك مسالة قد بدأت عجلاتها بالدوران والنتيجة ان غزة باقية برغم الضربات والخسائر وانها تعوض عن خسائرها بتجنيد اعداد غفيرة من الشبان – كما يقول بلينكن في خطابه الانف الذكر- وقد يكون من الصحيح ان صوت المدافع قد خفت الا ان غزة بذلت اقصى ما يمكن بذله في هذه الجولة وقد تجمد أو الغي مشروع التهجير إلى سيناء.

الخوف هو في الملاحق السرية وفيما وعدت الإدارة الأمريكية الجديدة نتنياهو به مقابل تنازلاته التي ارغمته عليها في غزة، وهي ولابد وعود مغرية و ثمينة، وقد يكون على قائمة الثمن اطلاق يده في الضفة الغربية تعويضا عن كف يده في غزة، ان كفت يده اصلا فهو سيواصل خرق أي اتفاق و لديه بذلك غطاء من الرئيس الامريكي شخصيا الذي صرح السبت الماضي: انه و برغم الاتفاق فان على (إسرائيل) ان تفعل ما يلزم لضمان امنها، وذلك بتنفيذ المشروع المعلن للحكومة والمستند إلى خطط وزير المالية سموت ريتش التي نشرها عام 2017 حيث تعتبر ان الضفة الغربية هي يهودا والسامرة ممالك (اسرائيل) القديمة والتي يجب ان تعود اليهم بالضم وبطرد السكان الفلسطينيين منها.

غزة واهلها قاموا بما عليهم وحالهم كحال بيت الشعر:

لا تلم كفي إذا السيف نبا    صح من العزم والدهر ابا

 وهم يحتاجون إلى الرعاية واستعاده ظروف الحياة الإنسانية، المعركة القادمة ستكون في الضفة الغربية في مواجهة هذه الحكومة التي اعلنت عن نفسها عند تشكيلها بالقول ان الحكومات (الاسرائيلية) المتعاقبة منذ عام 48 حتى تشكيلها كانت حكومات تدير الصراع اما هذه الحكومة فهي تريد حسم الصراع والميدان هو الضفة الغربية التي ستكون امام مواجهة لا تقل خطرا عما جرى في غزة.

ختاما وبعيدا عن المبالغات في الحديث عن نصر مؤزر أو هزيمة فغزة كما سبق القول قدمت ما عليها ولم تنهزم، وهذا يكفي إذا اخذنا في الاعتبار مفاهيم النصر والهزيمة في الحروب غير المتناظرة بين قوة ضعيفة قليلة العدد و العتاد و محاصرة و بين قوة غاشمة تملك امكانيات لا حد لها ودعم عالمي غير مسبوق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *