أنفقنا ثروةً تعادلُ مليارات الدولارات على البناء، مفتخرينَ بما بنيناهُ وأنجزناهُ من عُمرانٍ وتطوُّرٍ وخدمات، دون محاولة الحصول على وسائل كفيلة بالدفاع عمَّا بنيناه.
وكأننا نعيشُ في عصرِ سلامٍ وفي محيطٍ راقٍ لا وجود لكيانٍ توسُّعي فيه، مدعومٍ من أقوى الدول، قد يعتدي في أي وقت علينا.
تناسينا بالتالي طبيعةَ أهداف الأعداء وما يخططون له، وتغنّينا لسنوات بالنصر الإلهي معتقدينَ بأننا بِتنا نملِكُ ترسانةً فائقة القوة وقادرة على مواجهة الجيش الذي هزمَ بخططِه وتكتيكاته وميزانياتِه ومخابراتِه والدعم الذي تلقّاهُ الجيوشَ العربية في الحروب السابقة.
أمَّا اليوم وبعدَ الذي جرى وتكشَّف لأكثريةٍ كانت غافلة عنه، فإنَّ الحرب المتدرِّجة والمعاودة في جولاتٍ وجولات، لن تنتهي قبل انتصار أحد الطرفين.
وفيما أكَّدت كل المعلومات المتوفِّرة على مخطط مُسبَّق لتوجيه ضربات مؤلمة ضدَّ لبنان، بصرف النظر عن جبهة مساندة غزة، اقتضى من المقاومة، التي تسجِّلُ بطولاتٍ بوجهِ المعتدي والمستمرة بعملِها حتى يحين ولو مرحلياً وقتُ وضعِ السلاح، إعادة النظر بنقاط الضعف لا القوة في استراتيجيتها، ومنها العمل بمزيدٍ من السريَّة، والسعي وفق الإمكانيات المُتاحة والمجالات المتوفِّرة لاستقدام صواريخ أرض – جو حديثة، قبل وضعِ أي حجر أساس لأي مبنى.
حانَ الوقت كي يَعي شعبُنا المشرقي، بأنَّ هناك أربعة شعوب ناطقة باللغة العربية، ففيما العربُ بالأساس هم سكَّان شبه الجزيرة العربية. وقد هاجرَت منها قبائل في كل اتجاهات العالم العربي، لكنَّ الواقع الجغرافي والاجتماعي يحتِّمُ علينا النظر علمياً لا وجدانياً أو دينياً إلى المسألة. بحيثُ قد تتعاطفُ معنا دولٌ عربيةٌ عدَّة وتدعمُنا في مراحل معينة، وقد لا تفعل. إنما لن يشاركونا عن قُرب قضايانا القومية، كما لن نشاركهم قضاياهم القومية.
وما قد يساعد على فهمِ كيفية تكوين الشعوب والمجتمعات هو النظر إليها على مدار العالم لتمييزها قومياً، لا إقليمياً، عن بعضها، أي كما تناول سعاده هذه الفكرة في كتابه “نشوء الأمم”.
فمن قضايا العرب إذاً: الخلاف حول تقاسُم مياه نهر النيل بين أثيوبيا من جهة والسودان كما مصر من جهة ثانية. والخلاف الدائر بين المغرب والجزائر حول ملكية الصحراء الغربية ووادي الذهب. والخلاف الناشب بين بعض دول مجلس التعاون الخليجي واليمن، الذي بدأ برفض اليمن كعضو في المجلس، لعدم توفُّر مقوّمات الثراء فيه، على غرار بقية دول الخليج، إذا نظرنا لقطاع التنمية وحجم الموارد بالمقارنة مع عدد السكَّان. ناهيكَ عن الأسباب الأُخرى المتعلّقة بسياسة كل دولة خليجية، وما أرستْهُ من علاقات دولية.
أما قضيتُنا، وهي في الآن ذاتِه المعضلة أو المشكلة الأكبر عالمياً وليس فقط مشرقياً، فهي المسألة اليهودية وتاريخُها الأسود على امتداد العالم، حتى حلول القرن العشرين ونشوء كيان إسرائيل.
لكن هناك بالطبع شواذاً لكلِّ قاعدة، إذ نرى اليمن الذي تعرَّض للحصار والعدوان، كما إيران، يقفونَ معنا لأسباب دينية وأخلاقية، فيما تتضامنُ الجزائرُ عن بُعد، بعدَ الذي دفعتْهُ من ثمنٍ لنيلِ حريَّتِها.
فلا يتعجَّبنَ أحدٌ من الموقف العربي غير المبالي عموماً، بما ترتكبهُ إسرائيل من مجازر ودمار، لأن لا مشكلة أو حدود بين هؤلاء العرب وبينها.
حتى أنَّ بعض هؤلاء، ولو انتموا لدين الإسلام الذي يُملي عليهم سلوكاً محدداً تجاه المسلمين، يتمنّون تصفية القضية الفلسطينية، ليرتاحوا من المشاكل مع إسرائيل وداعميها، فيقيمون معهم علاقاتٍ تخدمُ مصالحَهم المُشترَكة. وقد يسعونَ في المستقبل لتصفية قضيتنا القومية برمَّتها، والتي تتخطَّى حدود فلسطين لتطأ حدود هلالنا الخصيب، السليبة والحاوية على ثرواتٍ نفطية وغازية، قد تنضب قبل استرجاعِها.
لو كانت لنا في لبنان دولة ذات سيادة ومواطَنة، مؤمِّنة للمساواة بين جميعِ المواطنين، ومُطبِّقة للدستور والقوانين بشكلٍ كافٍ، لما سُمِح لكلّ خائنٍ وتابعٍ وعميل، يقبِضُ مالاً من جهة معادية أو خارجية لها مصالح خاصة، أن يُمسي بوقاً يومياً للدعاية الكاذبة وللفتنة.
ولو كانت لدولتِنا صفات الدولة تلك، الجامعة وغير المُركَّبة طائفياً، لما نالَت أيَّةُ جهة وأيُّ مرشحٍ ذات حيثية طائفية أو سوابق في مجالي العمالة والإجرام أصواتاً انتخابية كافية لتمثيلِ الناس، ولا دعماً لاستلام مواقع المسؤولية.
لم ولن يتعلّم المتطرّفون من المتديّنينَ، شكلياً لا في المضمون، كأتباع الانعزالية والتكفيرية وسواها دروساً من ماضيهم. بل يتشبّثون بشعاراتهم المتزمتة ومقولاتِهم البالية، كما بفشلِهم، ظناً منهم أنّ أيامهم عائدة، بظلِّ ظروفٍ تتوقَّعُها فقط أحلامُهم، فيما التطوُّر الفكري والإنساني يمضي قُدُماً.
إنَّ وسائل التواصل المُسمى بالاجتماعي، وبعد أن نمت وانتشرت في السنوات الأخيرة، باتت تعكِسُ وكالمرآةِ في كلّ مجتمعٍ، حقيقةَ أفراده، لا بل فئاتِه وأحزابه وجمعياتِه.