يمكن للمطّلع أن يرى ما وصل إليه الوضع العالميّ اقتصاديّاً من أدنى دركات السوء نتيجة استمرار الحرب في أوكرانيا، ومع دخول أوروبا في موسم الصّقيع عقب بلوغ الصّراع على الطّاقة درجة الذّروة بين معسكرين متنافسين باتا واضحَي المعالم يظهران التّحوّل الذي يجري على مستوى النّظام العالميّ. وإلى جانب ذلك، تستمرّ الولايات المتّحدة في دفعها إلى تأزيم الحالة بسبب سعيها إلى محاصرة الصّين وتقويض أي منفسٍ ومنفذٍ لها، لا سيّما المتنفّس الشّماليّ الرّوسيّ، من جهةٍ أولى، وسعيها إلى إضعاف القارّة الأوروبيّة الحليفة لاستعادة مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثّانية بوصفها واحدةً من الحلول لأزماتها الاقتصاديّة.
في ضوء ذلك، يغدو المستوى الاقليميّ أكثر تعقيداً مع التأزّم في الوضع التّركيّ عشية انتخاباتها، وهو ما يدفع الرّئيس التّركيّ إلى لتحقيق مكاسب سياسية على حساب بلادنا منتهزاً المناخات التي تحتاج إلى الجغرافية التّركيّة، وسط تفاقم للحلم الكرديّ المستفيد من دعمٍ دوليٍّ متفاوتٍ، وتواصلٍ للطّموحات الإقليميّة المتنوّعة التي ترجمت مشاريعها في ساحتنا القوميّة محاولات توغّلٍ، أو تغذية محاولاتٍ قديمةٍ أو متسحدثة في التّقسيم والتّفتيت، مع استمرارٍ للحصار الاقتصاديّ المتوحّش على بلادنا، وفي ظلّ استشراسٍ معهودٍ للكيان المحتلّ ضدّ شعبنا في الجنوب، وأذرعه المتناثرة في أمّتنا تعزيزاً للبلبلة والشّقاق والتّشويه والتّسطيح في بنية المجتمع وثقافته.
في مواجهة هذا كلّه، لا بدّ من التّأكيد على أنّ الحصارات المحيطة بالعراق والشّام خارجيّاً عبر القوى الدّوليّة والإقليميّة، وداخلياً عبر عناصر الفساد وقواه المستشرية في المجتمع والمؤسسات، لن تكون نتيجتها الإخضاع لعناصر القوّة فيهما، ولن تجدي نفعاً محاولات التّفريق بينهما؛ وكما تمّ إحباط محاولات دهورة الأمن في العراق سيتمّ إحباط أي محاولة أخرى لزعزعة الوضع فيه.
أمّا في الشّام، فلا بدّ من الإشارة إلى أنّ الشّعارات المطلبيّة المحقّة والملحّة التي ظهرت نتيجة الأزمة الاقتصاديّة الخانقة والحصار المفروض على الشّام، لا تبرّر التّعاطي التّخريبيّ الذي قامت به بعض المجموعات المشبوهة الواضحة الارتباط والأهداف في أحداث السّويداء، والذي كان محضّراً ومخطّطاً له بشكلٍ مسبقٍ ومتقن؛ مع الوقوف إلى جانب أبناء شعبنا في السّويداء، وبينهم القوميّون الاجتماعيّون المضحّون، والذين وأدوا الفتنة وأحبطوا المخطّط المرسوم الذي يهدف إلى استعادة أحلامٍ بائدة.
في موازاة ذلك، نرى أنّ العدوّ التّركيّ في حدودنا الشّماليّة يبقى أعجز عن القيام بتوغّل برّيّ موسّع للحفاظ على ماء وجهه في صراعاته الإقليميّة المتعدّدة، وأي تحرّك عسكريّ مهما كان محدوداً في شمالنا، لن تكون نتيجته إلّا إغراقاً له في مآزق إضافيّة.
بينما في جنوبنا، ومع الذكرى الخامسة والثلاثين على انطلاق الانتفاضة الأولى، تبقى المقاومة هي العنصر الحيّ في بلادنا لكونها تبدع في مواجهة أعدائنا كلّ يوم، وتقدّم خيرة شبابنا على مذبح التّحرّر، وهو السّبيل الوحيد لتحقيق الانتصار في صراعنا الوجوديّ، ولكن تبقى العبرة في استمراريّة العمل المقاوم وشموليّته، وذلك للإفادة من التّعاطف الدّوليّ الحاصل مع فلسطين، والذي ظهر في المحافل الدّوليّة الشّعبية التي جاهرت بأنّ هذه المسألة مسألة محقّة.
في السّاحة اللّبنانيّة، ستبقى التّحرّكات السّياسيّة على خطّ الملفّ الرّئاسيّ دائرةً في حلقةٍ مفرغةٍ لأنّ النّهج القائم لن يؤدّي إلّا إلى أزمات وشروخٍ إضافيّة، والمحاولات لخلق توافقاتٍ من هنا أو حوارٍ من هناك تبقى مبتورة، خصوصاً في ظلّ انقياد بعض سياسيّي الكيان إلى الأجندات الخارجيّة، وإن حصل التّوافق فهو مهدّد كالذي سبقه بالانهيار في أي لحظة.
وهذا ينسحب بالطّبع على الملف الحكوميّ الذي قد يتّجه إلى الحلحلة نوعاً ما، مع تعويمٍ جزئيّ مرحليّ للحكومة القائمة، لكنّه لن يكون حلّاً لأزمة لبنان بل إدارةً للمرحلة الرّاهنة فحسب، لحين تشكّل مناخٍ عامّ مواتٍ لتسويةٍ جديدة. وهذا ما نصرّ على رفضه، خصوصاً لجهة كونه توافقاً جديداً على حساب اللّبنانيّين، وهو ما يحافظ على مسار النّهج الخاص بالكيان اللّبنانيّ، والذي يحمل في أحشائه بذور أزماته المتراكمة.
أمّا عند التّطرّق إلى المستوى الاقتصادي في ظلّ مواصلة الحصار على لبنان، وإمعان أمراء الحرب والطّائفيّة والفساد على متابعة نهجهم الذي يحاولون تزيينه بشتى مهارات الاحتيال، فإنّ رفع الدّولار الجمركيّ قد يغدو حلّاً اقتصاديّاً موقّتاً، لكنّه سيتحوّل تلقائياً إلى عبء إضافيّ على كاهل المواطنين، ولن يكون الحلّ الناجع لتغيير المسار الانحداريّ للأزمة.
تعقيباً على هذا كلّه، الكلمة الفصل لن تكون إلّا للقوميّين الاجتماعيّين الحقيقيّين، لكونهم المؤمنين بحقيقة بلادهم، المنتجين على امتداد الأمّة… هم المنتجون في المجتمع وتعزيز تماسكه، وفي تحصين ثقافته ونشر الوعي الحقيقيّ داخله، وفي تأمين التّكافل الاجتماعيّ لمواجهة الأزمة الاقتصاديّة العامّة، كما في البطولة المؤيّدة بصحّة العقيدة.
فيا أبناء الحياة، أنتم بقع الضّوء في شرايين الأمّة، وعليكم وحدكم تقع مسؤوليّة استعادة ساحات الصّراع لإنقاذ بلادنا، لأنّ الحياة لكم وبكم.
عميد الإذاعة والإعلام لؤي زيتوني
تحيا سوريا