ماريا زاخاروفا: سنبذل قصارى جهدنا لمدّ يد المساعدة للبنان

ماريا زاخاروفا: سنبذل قصارى جهدنا لمدّ يد المساعدة للبنان

“… إنّها بلاد شاسعة وغنيّة، وقويّة، وهي تعمل بحرارة ما فوقها حرارة، وإيمان ما بعده إيمان، على تعمير بيتها ورفع مستوى سكّانها.. ولذلك تريد السّلم قبل كلّ شيء، ولا تطمح بأيّ مغنم من أيّ حزب.”

هكذا وصف ميخائيل نعيمة روسيا بدايات القرن العشرين في كتابه أبعد من موسكو وواشنطن، وميخائيل نعيمة كان من طلائع اللبنانيين الّذين قصدوا روسيا طلبًا للعلم، وقد كرّت سبحة هذا النّوع من العلاقة بين روسيا (الاتّحاد السّوفييتي سابقًا) ولبنان إلى الآن، إذ تخرّج من الجامعات الرّوسيّة ولا يزال ألوف الأطبّاء والمهندسين والاختصاصيين في كلّ المجالات، ليعودوا إلى بلدهم يمارسون مهنًا نافعة، ويستلم بعضهم مراكز قياديّة.

لقد كان الاتّحاد السّوفييتي من أوائل الدّول الّتي اعترفت باستقلال لبنان، وقد عملت روسيا الاتّحاديّة على مدى عقود للحفاظ على وحدته واستقلاله، وكانت لها مواقف من الاعتداءات الإسرائيليّة عليه في مجلس الأمن تُحسَب لها، كذلك فقد ساعدت في وقف الحرب الأهليّة عام 1990 واتّخذت موقفًا مؤيّدًا للبنان في حرب 2006 في مجلس الأمن، كذلك ساعدت في إعمار البنية التّحتيّة اللبنانية..

فالعلاقات الرّوسيّة اللبنانيّة ليست عابرة، بل هي علاقات ذات جذور، واليوم تسعى روسيا للمساهمة في أن تكون عنصرًا فاعلاً في انتشال لبنان ممّا يعانيه، لكنّ الوضع العالمي معقّد وأميركا الحاضرة بقوّة على السّاحتين اللبنانيّة والعربيّة لن تسمح بسهولة بأن يكون لروسيا يد في لبنان خاصّة بعد أن فرضت حضورها في سوريا..

ومع ذلك فإنّ روسيا تحاول الإضاءة على الوضع اللبناني وقد كان للناطقة الرسمية باسم وزارة  الخارجيّة الروسيّة ماريّا زاخاروفا توصيف مفصّل لهذا الوضع فقالت: “في الثّاني والعشرين من تشرين الثّاني، سيحتفل الشعب اللبناني بالذكرى التّاسعة والسّبعين للاستقلال في الوقت الّذي يغرق فيه لبنان في أزمة عميقة على مستوى النّظام، أثارتها التّدخّلات الخارجيّة.. فلبنان من دون رئيس بعد انتهاء ولاية ميشال عون أواخر الشّهر المنصرم، ويتولى رئيس الوزراء مهامّ رئاسة الجمهورية، في حين ينقسم البرلمان إلى عدة معسكرات سياسيّة. وسيقوم النّوّاب بمحاولات متكرّرة لانتخاب رئيس لكن من الصعب الحكم على مدى نجاح هذه المحاولات.

إنّ الشؤون الماليّة، والاقتصاد العام للجمهوريّة اللبنانية الّذي كان مزدهرًا في السّابق، هو اليوم في حالة يُرثى لها. لقد اكتمل انهيار النّظام المصرفي أواخر عام 2019 بتجميد مدّخرات المودعين، وانخفاض سعر صرف العملة الوطنية بنسبة 96.3٪..  تمّ قطع إمدادات الطّاقة الكهربائية المركزيّة حتّى في العاصمة، البنزين ليس المادّة الوحيدة التي يصعب نيلها، هنالك نقص في زيت الأفران المطلوب، من بين أشياء أخرى، لتدفئة البنية التّحتية المدنيّة والمنازل. بالنظر إلى أزمة الغذاء التي خلقها الغرب بشكل مصطنع، فإنّ النّقص في العّلّف والحبوب الغذائية آخذ في الظهور باعتباره احتمالًا حقيقيًّا، انتشار وباء الكوليرا في البلاد دليل مخيف على انهيار مستويات المعيشة للفئات الشعبية الأكثر ضعفا.

لبنان اليوم، في حاجة ماسة إلى الدعم السّياسي والمساعدات المالية والاقتصادية على نطاق واسع. لكنّ المتلاعبين الخارجيين، الذين أوصلوا لبنان بالفعل إلى حالته الحالية بينما كانوا يسعون وراء أهدافهم الجيوسياسيّة المرتزقة، ليسوا في عجلة من أمرهم لاتخاذ أي خطوات للتغلب على هذه العواقب المروّعة. وفوق كلّ ذلك، تعرقل واشنطن بكل الطّرق المشاريع الإقليميّة لتزويد لبنان بالغاز الطّبيعي من مصر والكهرباء من الأردن باستخدام البنية التحتية للنقل الحالية. ليس لدى واشنطن وقت لأنّها منخرطة في مشروع يسمى “تدمير أوكرانيا”. هذه هي وجهة مليارات الدّولارات.. في حين يتعرض السّياسيون اللبنانيون لضغوط غير مسبوقة تهدف إلى تغيير مسار السّياسة الخارجيّة الرشيدة لبيروت، وعزل وتهميش القوى الدّاخلية غير المرغوب فيها بالنّسبة للأمريكيين، وفي مقدمتها حزب الله.

لبنان بلد ذو تقاليد سياسية متطوّرة، وقد فشلت محاولات الإملاءات الغربية المتطرّفة، ومن بينها التدخّلات المسلّحة الأمريكية في الخمسينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والتي لا تزال ماثلة، بقوّة وفي كلّ مناسبة، في ذاكرة المنطقة ككلّ ولبنان على وجه الخصوص.

في ظروف اليوم، يستخدم الغرب الابتزاز الاقتصادي، والدّيموغرافي، فأكثر من مليون لاجئ من سوريا المجاورة يشكلون عبئًا ثقيلًا على لبنان، دون أن يحرّك الغرب ساكنًا لمساعدتهم على العودة إلى بلدهم، كذلك لم يدعم عملية الإعادة الجماعية لسوريين من لبنان، التي استؤنفت في الأشهر الأخيرة بناءً على الاتفاقات اللبنانية السّورية. على العكس من ذلك، فإنّ الغربيّين يبذلون قصارى جهدهم لتأجيل ما يراه اللبنانيون مشكلة مؤلمة للغاية ينبغي حلّها.

كانت روسيا على الدوام تؤيّد سيادة لبنان واستقلاله ووحدته وسلامة أراضيه، ونحن مقتنعون بأنّه يجب معالجة جميع المشاكل الوطنية الملحّة دون تدخّل أجنبي، على أساس توافق وطني يضمن الحفاظ على توازن المصالح المشروعة للجماعات السّياسيّة والعرقيّة والدينية القياديّة. نأمل أن يؤدي النضج السياسي لدى الجمهور اللبناني، وامتلاك السياسيين لذواتهم ومهارتهم في عقد الاتفاقات، إلى تفعيل عمليّة صنع القرار التي تجعل من الممكن استئناف العمل الطبيعي لجميع فروع السّلطة، والبدء في التحرك نحو تصحيح الوضع الاجتماعي والاقتصادي. .

نرى اليوم مشاكل ومعاناة الشعب اللبناني الصديق ومن جانبنا سنبذل قصارى جهدنا لمدّ يد المساعدة”.

لا شكّ في أنّ هذا التّوصيف للوضع اللبناني، وعرض روسيا مدّ يد المساعدة للبنان يشكّل خرقًا للحالة الأميركيّة المسيطرة، إذ تسعى روسيا اليوم إلى أن يكون لها موقف في لبنان، ةقد وصف زاسبيكين تطوّر العلاقة الرّوسيّة اللبنانية قائلاً: “أصبحت تقليديّة ومتساوية، إنّ موسكو تقف على مسافة واحدة من الحكومة والأحزاب السّياسيّة.”

كذلك فإنّ روسيا تسعى للتّشبيك الاقتصادي مع لبنان بما يحقّق الفائدة للطّرفين، وقد أفاد مصدر مشارك في المحادثات المتعلّقة بالعروض الرّوسيّة بأنّ لدى الوفد الرّوسي رغبة في العمل على سبعة مشاريع إنقاذيّة للبنان من ضمنها إعادة إعمار مرفأ بيروت، وتحديث مرفأ طرابلس، وبناء محطّات لتوليد الطّاقة..

لقد بات واضحًا أنّ تفعيل العلاقات الرّوسيّة اللبنانيّة يشكّل حاليًّا النّتيجة الطّبيعيّة للدّور الرّوسي المحوري في المشرق، هذا الدّور المنطلق من ثوابت دعم الاستقرار، ومواجهة الإرهاب، والاستفادة من ملفّ الغاز في شرق المتوسّط.

من المهمّ جدًّا للبنان، أن يستفيد من دور روسيا في ظلّ تصاعد هذا الدّور على حساب الأحاديّة الأميركيّة المنكفئة عن المنطقة، وتحديدًا في ملفّ النّازحين السّوريين، وتشكيل غطاء حماية للبنان خاصّة أنّه ليس لروسيا مطامع أو نزعات أيديولوجيّة تؤدّي إلى زيادة الانقسامات المذهبيّة.

بالنّتيجة فإنّ لبنان بلد ذو توازنات، وهو بمثابة مرآة العالم العاكسة لكلّ خلافاته، وصراعاته، لقد كان كذلك في الماضي، وهو كذلك الآن بلدٌ يتمزّق على وقع الصّراعات العالميّة، فكلّ أزمة وكلّ طرف عالمي فيها، له في لبنان انعكاس لصورته ولتداعياته.. البعض يقول إنّ الحلّ يكمن في الانخراط التّام في المشروع الأميركي، ولو كان هذا المشروع على حساب فئات لبنانيّة وازنة، ويقول البعض الآخر أنّه لا حلّ إلاّ بمحاربة المشروع الأميركي، والتّوجّه شرقًا نحو روسيا وغيرها من القوى الصّاعدة. فهل نضجت قوى الشّرق، وهل تقدر على حماية واحتضان دولة ضعيفة كلبنان؟؟ في ذلك أخذ وردّ وما علينا إلاّ الانتظار فلعلّ فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين يكون مفتاح الخلاص، نقول ربّما.. وننتظر.  

باحث في الشؤون الاقتصادية والادارية الدكتور أحمد لقمان الزين