ماذا يعني اجتياح مدينة رفح؟

بناء على خطوط اتفاقية سان ريمو التي جزّأت بلادنا، وقعت مدينة رفح في منتصف الخط فأصبحت رفحين الشمالية الغربية فلسطينية والجنوبية الشرقية مصرية. ولكن طبيعة الأرض ومن عليها بقي أقوى من تلك الخطوط، فالأرض واحدة والشعب واحد. تتبادل نساء رفح الأحاديث والملح والسكر والشاي والقهوة عبر النوافذ، ولكن بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد واسترداد مصر لأراض كانت قد احتلت عام 1967 فرض على أهل رفح التقسيم فأصبح نصفها مصري والنصف الآخر فلسطيني يقع تحت سيطرة الاحتلال.

إثر اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الفلسطينية انتشرت أعمال التهريب من رفح المصرية الى رفح الفلسطينية وتطوّرت عبر الأنفاق التي تصل بين ضفّتي المدينة، وظهر ما أصبح يعرف باقتصاد الأنفاق التي تمر عبرها المواد التموينية الزهيدة الثمن في مصر وكذلك الكهربائيات والسجائر وصولًا الى السيارات والعجول والجمال وكل ما يمكن تهريبه، بما في ذلك الأسلحة التي كانت ترد الى غزة من إيران عبر السودان ولاحقًا من ليبيا بعد انهيار نظام القذافي.
تعاملت السلطات المصرية في السابق مع هذه الظاهرة بطريقه غض البصر ومعاقبة مهرّب أو منع عمليّة تهريب مقابل السماح بأخرى، وذلك لأسباب إنسانيّة أو لما يحققه اقتصاد التهريب من ازدهار في أحوال أهالي سيناء ورفح المصرية، وكذلك لأسباب سياسية تتعلّق برغبة مصر بإبقاء إمساكها بتلابيب الورقة الفلسطينية، ومن الجدير ذكره أنّ اتفاق كامب ديفيد قد نصّ على منع طرفي الاتفاق من إدخال الآليات العسكرية الثقيلة الى سيناء ورفح بما في ذلك سيارات الدفع الرباعي والسماح بقوة شرطة فقط. كان المقصود بذلك منع المصريين من تعزيز وجودهم العسكري هناك وهو الحال الذي ساد منذ عام 1978 حتى السابع من تشرين الأوّل 2023، إذ أصبحت تلك حاجة “إسرائيلية” لا مصرية، “فالإسرائيلي” يحتاج الى آليات ثقيلة للزوم الحرب ولإحكام الحصار وهدم ما يدّعي من أنفاق يتم تهريب السلاح منها، غير آخذ في الاعتبار أنّ الحكم المصري في عهد الرئيس الحالي قد دمّر الأنفاق وغمرها بالمياه العادمة وهدم الجزء الملاصق للمدينة من الناحية المصرية، ونقل السكان الى الجنوب الشرقي لأكثر من 5 كيلومترات وذلك مشاركة منه في حصار غزة إنسانيًا وتموينيًا وتسليحيًا.
اليوم تطحن رحى الحرب المشروع “الإسرائيلي”، بدولته وجيشه وحكومته، فهم غير قادرين على تحقيق أهدافهم المعلنة بالقضاء على المقاومة او حتى بتحرير من تم أسرهم، ولا يملكون إلّا الاستمرار في حربهم وقد أخذوا يتحدثون عن اجتياح رفح التي أصبحت تحوي نصف سكان غزة، وحسب المصادر الأممية ففي كل كيلومتر مربع هناك أصبح يتواجد 27,000 إنسان. هذا الاجتياح “الإسرائيلي” يحتاج الى الدخول عبر رفح ومن الأرض المصرية وهو ما ناقشه وزير الأمن المصري (المخابرات) مع قياده المقاومة محذرًا إياهم من رفض الهدنة وإلّا فإنّ “الإسرائيلي” سيقوم باجتياح المدينة.

بين هذا وذاك ظهرت نقاط الانكشاف للسياسة المصرية، بداية منذ نشرت الصحافة العالمية ومنها الجارديان ونيويورك تايمز أخبارًا حول تقاضي المصريين مبالغ مقابل دخول كل شاحنة إغاثة لغزة عبر معبر رفح، وأنّ شركة سياحية تم ذكرها بالاسم وهي مقربه من النظام تتقاضى مبالغ كبيرة مقابل السماح لأهل غزة بالمرور عبر المعبر المغلق، الأمر الذي دعا الرئيس المصري للقول لا بل وللقسم والتساؤل (أروح من ربنا فين؟) أنّ ذلك غير صحيح وأنّ المعبر مفتوح على مدار الساعة، الأمر الذي ثبت أنّه غير صحيح.

نقطه التحوّل والانكشاف الثانية كانت في محكمة العدل الدولية حيث تم اتهام “إسرائيل” بارتكاب أعمال وجرائم الإبادة الجماعية والتي تتضمّن منعها دخول المساعدات الإنسانية الى غزة عبر معبر رفح، لكنّ محامي حكومة الاحتلال أعلن بوضوح أن لا علاقته للحكومة “الإسرائيلية” بإدخال مساعدات أو عدم ادخالها، فمعبر رفع حسب قوله هو معبر مصري ولمصر السيادة التامة عليه، وهي من يغلق المعبر ويمنع إدخال المساعدات وهو ما نفته الحكومة المصرية نفيًا خجولًا.

نقطة الانكشاف الثالثة وهي الأهم، كانت في تصريحات الرئيس الأميركي جو بايدن التي قال فيها أنّه مارس الضغط على الرئيس المصري لفتح المعبر فقطع بذلك قول كل خطيب، صمتت مصر قليلًا فهي لا تستطيع تكذيب صاحب الفضل ومانح الشرعية، وجاء بيانها متأخرًا ومختصرًا ليقول أنّ المعبر مفتوح فقط، الأمر الذي يذكّر بما حصل في العراق الأسبوع الماضي، حيث ادعى الأميركي أنّه أبلغ الحكومة العراقية بنيته توجيه ضربات للمقاومة العراقية، ولكن الحكومة العراقية كذّبت هذه الأخبار في حين ابتلع الأميركيون لسانهم وصمتوا.

نقطه الانكشاف الرابعة كانت بالعودة الى مراجعة اتفاق كامب ديفيد وما تقوله نصوصه بوضوح بأنّه لا يحق لطرفي المعاهدة إدخال الأسلحة الثقيلة والآليات الثقيلة الى منطقة المعبر (فيلادلفيا) وهذا إن حصل فلن يكون إلّا بموافقة مصرية.

حتى الساعة لا تقول مصر أكثر من أنّها ستغضب إن حصل الدخول “الإسرائيلي” الى المنطقة المذكورة، وأنّها ستعلّق العمل باتفاق كامب ديفيد (لا إلغاء الاتفاق)، هذا بحد ذاته، إضافة الى تصريحات بايدن، قد أعطى الانطباع لكل معارضي النظام أنّ الغطاء الأميركي قد سحب عن الرئيس المصري، مما سيجعله مادّة دسمة لهجوم معارضيه من الأخوان المسلمين والناصريين ورجال الجيش الكبار الذين تجاوزهم أمثال عنان وشفيق وكذلك بقايا النظام السابق.

الرئيس المصري الذي خسرت مصر في عهده جزءًا من نهر النيل ولم يعد لديها دور في السودان وليبيا، سوف يخضع للامتحان الأخير في رفح، فإن حصل الاجتياح الإسرائيلي عبر معبر فيلادلفيا فهذا يعني موافقة مصر عليه، ويعني أنّ هذا الرئيس قد أصبح عبئًا على مصر وعلى فلسطين وعلى العالم العربي.
سعادة مصطفى ارشيد
جنين- فلسطين المحتلة