في بلد كالعراق، قد تنضب موارده الهائلة، ولن تنضب أبدًا مشاكله المتجذّرة منذ الاجتياح الأميركي له، وما تلا هذا الاجتياح من أزمات عرقيّة، وإثنيّة، ومذهبيّة، وسياسيّة، واقتصاديّة… هل يمكن في بلد كهذا لحكومة مُشكّلة حديثًا، هي حكومة محمّد شّياع السّوداني أن تُحدِث فرقًا، وأن تُخرِج هذا البلد من ظلمات الفراغ، والفساد، والتّناحر، والكيديّة السّياسيّة، والتّرهّل في المؤسّسات، والتّدخّلات الخارجيّة… إلى فضاء النّظام، والمسؤوليّة، والتّوافق، والتّوازن في السّياسة الخارجيّة..؟
الأمر صعب، لكنّه لن يكون مستحيلاً في حال توافر عاملان هما التّوافق الدّاخلي، والإرادة الخارجيّة.
سلّم رئيس الوزراء السّابق مصطفى الكاظمي إذَا، وزر الحكم إلى محمّد شياع السّوداني، وهو محافظ ووزير سابق ينتمي إلى الطّبقة السّياسيّة الشّيعيّة التّقليديّة، بعد أزمة سياسيّة مستجدّة بدأت مع الانتخابات التّشريعيّة في تشرين الأوّل 2021، وانفجرت عنفًا دمويًّا أواخر آب المنصرم، فما هي التّحدّيات الّتي تواجهه وهل يمكنه التّصدّي لها، ما هي فرصه لتحقيق ذلك؟
لقد بدأت طلائع المشكلات تطلّ برأسها، أثناء جلسة انتخاب الرّئيس الجديد للوزراء فبعد حصول إشكال ومشادّة خلال الجلسة، خرج النّائب المعارض علاء الرّكابي من حركة امتداد المنبثقة من احتجاجات تشرين ليبدي أمام الصّحفيين اعتراضه على الحكومة الجديدة، وليتحدّث عن توافق حصل بين أحزاب السّلطة لتشكيل حكومة محاصصة أخرى.. ثمّ اضاف إنّ هذه الحكومة قد ولدت وولدت معها معارضة سياسيّة ضمن البرلمان العراقي..
علاء الرّكابي يمثّل فئة أوصلها حراك في الشّارع استفادت منه قوى، وركِبَته تيّارات، ومع ذلك هي تدّعي الطّهر، وتثور على سّلطة باتت هي جزءًا منها..
فئة مهمّتها أن تنتقد وتعارض لكنّها ليست مضطرّة لبلورة مطالب واضحة، تمسك بيدها بعض الشارع العراقي، سيفًا مسلّطًا تستعمله كلّما جاءها الإذن باستغلاله ولا أحد يعرف من يحرّكها..
فكيف سيتعامل الرّئيس الجديد مع هذه الفئة، وكيف يتجاوب مع توجّهاتهم، وهم يريدون أن يهدموا الهيكل، دون طرح مشروع بديل؟؟
هنالك أيضًا التّيّار الصّدري برئاسة مقتدى الصّدر، وهو الخصم الرّئيسي للتّيّار التّنسيقي الموالي لإيران والّذي انبثق منه رئيس الوزراء الجديد، هذا التّيّار لم يتمثّل في الحكومة، ورئيسه صامت الآن، فيما التّحليلات حول صمته كثيرة، فهل يعطي فرصة للحكومة الجديدة بانتظار خطوات معيّنة يتوقّعها، أم أنّ هنالك تسوية ما بين التّيّار الصّدري والأطراف السياسيّة .. كلّ شيء وارد، لكنّ هذه الحكومة ستكون على شفا حفرة من الانهيار طالما أنّ مقتدى الصّدر القادر على تعبئة عشرات الآلاف بتغريدة واحدة خارجها، مقتدى الصّدر وتيّاره تحدٍّ داخلي آخر يؤخذ بعين الاعتبار.
والفساد المتنامي في العراق، الّذي مدّ له جذورًا وجسورًا في عموم الطّبقة السياسيّة العراقيّة على تنوّع فئاتها ومشاربها.. هذا المرض العضال هل تملك حكومة الشياع علاجًا كيميائيًّا له، وهل يمكن القضاء عليه دون أن ينهار الجسم العراقي بكامله تحت وطأة العلاجات القاسية التي يتطلّبها مستوى انتشار الفساد في الجسم العراقي المنهك أصلاً من الحروب والاحتلال؟
والفقر، والبطالة، وإقليم كوردستان وما يمثّله من حالة انفصاليّة مقنّعة تغري بقيّة الأقاليم بالانفصال عن الحكومة الاتّحاديّة، والعلاقة مع الخارج: إيران، وأميركا وتركيّا والسّعوديّة.. الحقيقة أنّنا لو أردنا أن نفصّل في كلّ من هذه التّحدّيات لنضب حبر أقلامنا ولبقي في فكرنا الكثير ممّا لم نقله..
صحيح أنّ السّوداني تعهّد بتبنّي إصلاحات اقتصاديّة تستهدف تنشيط قطاعي الصّناعة والزّراعة، وبتوفير فرص عمل وسكن للشّباب، وصحيح أنّ ما يقارب 87 مليار دولار احتياطات نقديّة حقّقها العراق من إيرادات النّفط موجودة في البنك المركزي بانتظار إقرار موازنة تسمح بالاستفادة منها.. وصحيح أنّ العراق يملك مخزونًا عاليًا من الذّهب كافيًا لحلّ كلّ مشاكل العراق ناهيك عن ثروات أخرى لا حصر لها..
لكنّ الصّحيح أيضًا أنّ الخلافات قد صدّعت مؤسّسات الدّولة وضيّغت الكثير من الفرص في التّنمية والبناء والإعمار..
رغم ما يملكه العراق من مقوّمات الازدهار، فإنّ مشاكله صعبة ومعقّدة، وهي ليست وليدة لحظة لتحلّها حكومة أو ظرف تسووي قد يكون عابرًا.
إنّ مشاكل العراق، كمشاكل لبنان، ومشاكل سوريا واليمن وتونس وفلسطين… لن يحلّها سوى تحرّر كبير وعظيم، ستحلّها عاصفة عالميّة تقتلع عالمًا قديمًا بكلّ مآسيه، وترسم عالمًا جديدًا بلا هيمنة ولا ظلم، وأن تكون لكيانات الشّرق الّتي ظُلِمَت وسُبِيَت على مدى عقود فيه بصمة دين وإيمان ورسالة محبّة وعدل..
سيستقرّ العراق حين يستقرّ العالم لكنّ بوجود التّوافق الدّاخلي والإرادة الخارجيّة، مَن يدري فقد تكون هدنة.. بانتظار ما ستحمله حروب العالم من تغيّرات.
الدكتور المحامي حسين العلي – بغداد